قلِّب أوراق التاريخ الإنساني واقرأ صفحات نضال الشعوب ضد المحتلين وجيوش الاستعمار، حتماً ستجد قواسم مشتركة بين تلك الشعوب الحرة، منها أن (الحياة الكريمة) لا تكون بالإذلال .
وأن (الحرية) تنتزع بالنضال من أنياب (العبودية)، وأن (مفاوضة) المحتل لا تكون إلا تحت حراب (المقاومة). لذا كان نضال الأمريكيين ضد التاج البريطاني في حروب الاستقلال لا يختلف عن مقاومة الفرنسيين ضد النازيين الذين احتلوا باريس في أسبوع خلال الحرب العالمية الثانية، كما أنه لا يختلف عن كفاح الليبيين ضد الطليان أو الجزائريين ضد فرنسا الليبرالية، كما لا يختلف عن بسالة الفيتناميين في دفع الاستعمار الأمريكي رغم تواضع عتادهم، وجهاد الأفغان ضد الدب الروسي الشيوعي أيام الحرب الباردة، أو بطولات البوسنيين في مقابل آلة الحرب الصربية الدموية.
لذا هي في عمومها لا تختلف عن مقاومة الفلسطينيين وجهادهم الطويل ضد الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين.. نعم هذه الشعوب وغيرها أخذت موقعها في سجل الشرف الإنساني، كونها بنت مجدها الوطني على جماجم المعتدين وطردت بقيتهم، فكانت شعوباً عظيمة، لأنها تؤمن بقيم الحرية الإنسانية والكرامة الوطنية وأن الحق فوق القوة، غير أن (الشعب الفلسطيني) يمتاز عنها في تاريخه الطويل المتوج بأروع صور الصمود البشري ومعاني الثبات القتالي وعدم التنازل عن الحقوق المصيرية، يمتاز بأنه يقاتل دولة إرهابية منزوعة القيم، وخارجة عن القانون، ومدعومة من كل القوى العالمية الكبرى، بالموقف السياسي والعتاد العسكري والجانب الاقتصادي والدعاية الإعلامية، دولة احتلال نالت شرعية وجودها على الأرض الفلسطينية بلعبة قذرة جرت في أروقة هيئة الأمم المتحدة، التي قامت أساساً لرد العدوان ورفع الظلم وإحقاق الحق، فإذا بها تدعم العدوان وتبقي على الظلم وتضيع الحق الفلسطيني، بقراراتها التمثيلية التي لم تلتزمها إسرائيل طيلة تاريخها الأسود.
امتياز الشعب الفلسطيني عن كل شعوب الأرض جعله شعباً أسطورياً، فالمجازر المروعة التي حلت به خلال تاريخه لم تخفه كي يترك أرضه بل زادته التصاقاً بترابها، والتحالف الدولي مع المحتل لم يحطم صموده أمام عدوه بل اشتد عوده فكان كالفولاذ، وخذلان أمته لم يفتت عزيمته في مواصلة تحرير وطنه بل زاد إصراره على الكفاح حتى النصر، إنه أسطوري في صور صمود أبنائه، الذين رافقوا شبح الموت حباً في الحياة، الذين يحملون الجنائز بأصوات التكبير وزغاريد الفرح، الذين يخاطبون العالم ب(لغة البقاء) على أرض الإسراء.
بالأمس كان صمودهم في مقابل آلة القتل والتدمير اليهودية مجرد حوادث عسكرية نقرأها في صفحات التاريخ أو تستذكرها الثقافة العربية دون الوعي الكامل لأبعادها الإنسانية وصورها البطولية الفذة، لأن الصورة كانت غائبة، ف(الإعلام الفضائي) لم يكن قد وُلد بعد، أما اليوم ف(الحقيقة) جاءت مباشرة حتى دخلت البيوت وشاهدتها العيون فخيمت في الذاكرة الجماهيرية محركة ًالنفوس الطبيعية بمجموعة أسئلة استفهامية عن طبيعة هؤلاء البشر، لماذا لم يخضعوا للقوة العسكرية التي لا تقهر كما كذب العاجزون، أو يستسلموا للمحتل الدموي الذي لا يغلب كما قال المخذلون؟، رغم أنهم يعيشون تحت قصف الطائرات منذ سنين، وينامون تحت نيران الدبابات كل حين، ويدرسون في أضواء القنابل الفسفورية دون خوف أو أنين، تهدم بيوتهم فينصبون الخيام بعزم لا يلين، ويشيعون موتاهم أحياءً ويدفنون أطفالهم أضواءً ثم يمضون لحياتهم وقلوبهم عامرة باليقين وبنصر رب العالمين.
تنطفئ الكهرباء فيشعلون الشموع، ويحكون لأطفالهم تحت ضوئها قصص الشموخ، يحاصرهم العدو الجائر ودول العالم المتحضر، فينقبون أرض العزة بحثاً عن حرية غزة، حتى أن مواقف صمودهم تتجلى في أبسط تفاصيل حياتهم اليومية، فتتحدث المرأة الفلسطينية عن أطفالها الذين فارقوا الحياة أمامها وكأنها تودعهم للمدرسة، ويقف الرجل الفلسطيني على ركام بيته المدمر وهو رابط الجأش رغم أن عائلته طحنت مع الركام، ويجلس الفتى الفلسطيني في فصله الدراسي وقد استشهد من حوله فيكتب أول سطر في كراسة الحرية: (هذا قدرنا والنصر لنا)، بل تصدح طفلة فلسطينية صغيرة بثبات وتعلن للعدو أنها كشجرة الزيتون مغروسة في أرض فلسطين، فما سر هذا الصمود الخارق والرغبة الجامحة في تحرير الأرض وصيانة العرض؟.
هنا سر بقاء قضية الأراضي المحتلة شوكة دامية في حلق الصهيوني الغاصب، وفلسطين باقية في وجدان الإنسان المسلم، رغم الانقسامات الفلسطينية والخلافات العربية والمؤامرات الدولية، ذلكم هو السر في (صمود) هذا الشعب الأسطوري أكثر من نصف قرن كأن حربه بدأت لتوها أمس.
Kanaan999@hotmail.com