Al Jazirah NewsPaper Friday  30/01/2009 G Issue 13273
الجمعة 4 صفر 1430   العدد  13273
الشيخ محمد القرعاوي.. القاضي بالمحكمة الإدارية بالشرقية لـ(الجزيرة):
التشريع الإسلامي سبق القوانين الغربية في الاهتمام بكبار السن ورعايتهم

 

الدمام - خاص بـ(الجزيرة)

الشيخوخة طور من أطوار الحياة البشرية، لا بد أن يمر بها كل إنسان مهما طال به العمر، وهذه سُنّة من سنن الله في خلقه {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}. ويعاني كبار السن من الرجال والنساء في كثير من المجتمعات غير الإسلامية من عقوق الأبناء، وإهمالهم لوالديهم، وإنكار حقوقهما، بخلاف المجتمعات الإسلامية التي تميزت بالبر والإحسان للوالدين بعد كبرهما. وفي العصور المتأخرة لوحظ أن الأنظمة، وخصوصاً أنظمة العمل، وضعت بعض اللوائح التي جعلت من الشيخوخة مشكلة اجتماعية من خلال إجبار الإنسان عند سن معينة على التقاعد عن العمل، وبالتالي تهميش دوره في المجتمع، وهذا يؤثر على الإنسان، ويجعله في عزلة عن المجتمع، ويشعره بالوحدة، وعدم رغبة المجتمع في خدماته، ونشاطه.

* كيف ترون مرحلة الشيخوخة كمرحلة متقدمة من عمر الإنسان؟

- الشيخوخة مرحلة من مراحل العمر، وحلقة من حلقات التاريخ، وجزء لا يتجزأ من وجود كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، فسُنّة الله في خلقه أن يأتي الجيل بعد الجيل، على امتداد عمر البشرية المديد، فيقدم الإنسان في حياته التضحيات، وقد يتعرض لمختلف ألوان الفاقة والحاجة، أو فتنة الغنى والثراء، أو آلام المرض والعجز، وخاصة إذا رد إلى أرذل العمر، وقد صورت الآية الكريمة هذا التحول في مرحلة الشيخوخة، قال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}، وهذا التحول سُنّة من سنن الله في خلقه، طفولة ضعيفة، وحيوية في الشباب، ثم انحدار وضعف وشيبة، فهو العلي القدير يخلق ما يشاء.

* الوفاء للأجيال في عصر متغير وسريع.. لماذا أهمله البعض؟

- ليس من الوفاء للأجيال السابقة من المسنين أن يهملوا أو يتركوا فريسة للضعف والحاجة في آخر حياتهم بعد أن قدموا لأمتهم ما بوسعهم، فالواجب رعايتهم والعناية بهم، عملاً بمبادئ شريعتنا الغرة التي حفظت للمسنين كرامتهم، وقدرت ذوي الشيبة في الإسلام، ودعت إلى إكرامهم.

* البعض ينظر للشيخوخة على أنها مرض ميئوس منه؟

- الشيخوخة طور من أطوار الحياة، وظاهرة من ظواهرها، إذا بدأت فسوف تستمر وبطريقة غير ملحوظة، وهي لا تنظر إلى الوراء، ولا تعود إلى شباب، وهي ليست مرضاً، وإنما هي فترة يتغير فيها الإنسان تغيراً فسيولوجياً إلى صورة أخرى ليست بأفضل من سابقتها؛ لأن الصورة الجديدة يصاحبها ضمور في كثير من الأعضاء، وفقدان ملموس للقوة والحيوية، تزول معه ظواهر الفتوة والعنفوان، ثم تنتهي كما ينتهي كل شيء، والشيخ هو من أدرك الشيخوخة، وهي غالباً عند الخمسين من العمر، وهو فوق الكهل ودون الهرم، وهو ذو المكانة من علم أو فضل أو رياسة.

* التشريع الإسلامي كفل لمن تقدموا في السن حقوقاً وفاء لهم.. نريد إلقاء الضوء على هذه الحقوق؟

- من أهم ما يتباهى به التشريع الإسلامي رعايته لكيان الأسرة المسلمة في استقرارها وتوازنها وتعاطفها وتعاونها، قال تعالى {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}، ومن المبادئ التي أرساها الإسلام ترسيخه لمفهوم الاحترام للشيخ الكبير في قوله صلى الله عليه وسلم (ليس مناً من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا)، ومن مبادئه في الحروب أنه صلى الله عليه وسلم وصى في قتال العدو أن (لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً ولا امرأة)، فالتشريع الإسلامي راعى ضعف المسنين، وحَرِص على مراعاة حالهم، واحترام مكانتهم، ففي الصلاة مثلاً لهم مراعاة خاصة، يهتم بهم الإمام، وهذا أدب دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا أمّ أحدكم الناس فليخفف، فإن فيهم الصغير والكبير، والضعيف والمريض وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء).

* طاعة كبار السن، خاصة بعد أن انتهت مسؤولياتهم، كيف حققها الشرع؟

- تشريعات الإسلام جعلت الطاعة على قدر الاستطاعة، قال تعالى {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، وقال أيضاً {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وهكذا يراعي الإسلام حال الشيخوخة والهرم، ولا يجد المسن غضاضة لعدم القيام بها على الوجه الذي تصبو إليه نفسه؛ لأن قواه الجسمية قد وهنت وضعفت، وكما جاء في الحديث: (ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام، إلا كتب الله بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة)، قال طاووس - رحمه الله -: (من السنة أن يوقر أربعة: العالم وذو الشيبة والسلطان والوالد)، بل إن الإسلام دعا إلى تقديم الأكبر سناً في الكلام، بقوله صلى الله عليه وسلم (كبّر كبّر).

بل إن مكانة المسنين تدعو إلى تقدير خبراتهم، والانتفاع بتلك الخبرة في ميادين المجتمع المختلفة، وهذا ما سار عليه الأولون، يدل على ذلك ما جاء في وصية أبي بكر رضي الله عنه لهاشم بن عتبة، في فتح الشام: (يا هاشم إنما كنا ننتفع من الشيخ الكبير برأيه ومشورته، وحسن تدبيره، وكنا ننتفع من الشاب صبره وبأسه ونجدته، وإن الله عز وجل قد جمع لك تلك الخصال كلها، وأنت حديث السن مستقبل الخير).

ومن ذلك أن عمر رضي الله عنه رأى شيخاً ضريراً يسأل عن باب، فلما علم أنه يهودي، قال له: ما ألجأك إلى ما أرى؟.. قال: أسأل الجزية والحاجة والسن! فأخذ عمر بيده وذهب به إلى منزله، فأعطاه ما يكفيه ساعتها، وأرسل إلى خازن بيت المال يقول: انظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرم، إنما الصدقات للفقراء والمساكين، والفقراء هم المسلمون وهذا من المساكين من أهل الكتاب.. ووضع عنه الجزية وعن ضربائه.

هذا عرض يسير لما جاءت به أسس الإسلام وتشريعاته الراسخة في رعايتها واهتمامها بالشيخ.

* وماذا عن منظور المجتمعات الغربية لكبار السن؟

- في المجتمعات الغربية الشيخ والمسن الكبير منفصل عن المجتمع، حتى ولو نصّت تشريعاتهم وقوانينهم على تنشيط المسن وجعله فرداً منتجاً يستفاد منه ومن خبراته، فالولد ينفصل عن أسرته بمجرد بلوغه سن الحلم، وكذلك الفتاة، فالكل مسؤول عن نفسه وتدبير حياته ومعاشه، ولا أحد ينفق على أحد هنالك، وبذلك سرعان ما تتفكك العلاقات والروابط بين الوالدين وأبنائهما.

وهذا ما جعل النائب الديمقراطي الأمريكي (كلودبيير) يقول: (إن وضع المسنين في أمريكا عارٌ وطني مرعب)، وذلك في معرض تعليقه على تقرير أعدته لجنة من مجلس النواب الأمريكي بعد دراسة استمرت ست سنوات، جاء فيه: (إن أكثر من مليون مسن ومسنة، تجاوزت أعمارهم 65 عاماً، يتعرضون لإساءات خطيرة، فيُضربون ويُعذبون..).

وتضيف الدكتورة سوزان ستايتمتر - أستاذة الدراسات العائلية في جامعة ملاوير - بقولها: (لقد تعودنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين، إننا نميل إلى العنف البدني، وقد أصبح هذا جزءاً ثابتاً، وأصبح إهمالهم وعدم الرفق، أو حتى خدمتهم، من الأمور الشائعة في المجتمعات الأوروبية).

كما نشرت صحيفة الشرق الأوسط خبراً مفاده أن (مطلقة بريطانية عرضت ابنها الوحيد للبيع بمبلغ ألف جنيه، والمبلغ يشمل ملابس الطفل وألعابه، وقالت: إنها تبيع ابنها لأنها لا تستطيع الإنفاق عليه، وليس لديها دخل لإعاشته).

فهذه الظواهر ليست غريبة على المجتمعات الغربية والشيوعية، ذلك لتجمد العواطف، ونضب معاني الإنسانية، وفساد الفطرة لديهم، لكن هذه المعاني غريبة على مجتمعات المسلمين حتى على العربية الجاهلية، فتجدها ممقوتة بغيضة.

هذا مما حدا بعض الدول الغربية إلى سن تشريعات وقوانين تعالج هذه المشكلات في مجتمعاتهم، وإلى إيجاد قوانين للرعاية المفتوحة للمسنين، من رعاية طويلة المدى ونحوها، كما نصت بعض قوانينهم على توفير بعض الامتيازات في رعاية المسنين، من تخفيض الضرائب على المنشآت التي يعمل فيها كبار السن، وتقليل الضريبة على الأبناء الذين يقيمون مع المسنين في المسكن الواحد، وامتيازات تصرف لبعض الجيران الذين يقومون برعاية كبار السن في بعض المنازل المجاورة لهم، وخصوصاً السيدات الأرامل، أو الرجال غير المتزوجين، ممن ليس لهم أقارب يقيمون معهم.

هذا، وقد سبق التشريع الإسلامي هذه القوانين في رعاية المسنين؛ إذ يحظى الكبار في مجتمعنا الإسلامي غالباً بمزيد من التقدير والرعاية والاحترام، ويدرك هذا كل من عايش الأسرة المسلمة، مع غيرها من الأسر الغربية أو الشرقية، حيث نجد أن كبار المسلمين سعادتهم غامرة، وراحتهم متوافرة، وهذا ما نلحظه واضحاً جلياً في اهتمام المملكة العربية السعودية برعاية المسنين، خلافاً لحال نظرائهم في المجتمعات الغربية اللادينية، رغم كل ما أحيطوا به من رعاية واهتمام من قبل تشريعاتهم وقوانينهم.

لكن مع ظهور المتغيرات الاجتماعية التي تشهدها المجتمعات المعاصرة، أوجدت بعض المظاهر السلبية في حياة الأسرة المسلمة، وفي بيئة المجتمع بشكل عام؛ ما أدى إلى وجود بعض المظاهر السلبية المؤسفة، من عدم المبالاة والإهمال لبعض المسنين، بل وضعهم في مأوى العجزة، أو أحد المستشفيات تهرباً من خدمتهم.

* كيف يمكن علاج مشكلات كبار السن؟

أما إمكانية وجود حلول لهذه المشكلات، فيمكن من خلال الآتي:

- ضرورة الاهتمام بأنماط الرعاية الموجهة للمسنين، رعاية اجتماعية واقتصادية وطبية ونفسية.

- توفير أنشطة ترويحية، بوصفها تمثل ضرورة لشغل أوقات الفراغ في هذه المرحلة، واهتمام وسائل الإعلام بمختلف أنواعها بفقرات تختص بالمسنين بشكل واضح.

- توفير الخدمات الطبية والعناية للمسنين؛ نظراً إلى أنهم أكثر تعرضاً للإصابة بالعديد من الأمراض الجسمية والنفسية.

- إتاحة فرص العمل أمامهم، ممن يرغب في الاستمرار في مجالات العمل، من خلال تخصيص بعض الأعمال التي تتفق وحالتهم الصحية.

- مراعاة الحاجات الإنسانية في هذه المرحلة، كالحاجة إلى الراحة والأمان والتقدير والاحترام وتقدير الذات.

- وجود مؤسسات خاصة (الجمعيات والنوادي): تلبي حاجات المسنين نفسياً واجتماعياً.

وأخيراً يجب علينا ألا نغلق أمام المسن مجالات العمل، أو فرص المشاركة في النشاط الاجتماعــــي؛ لأن حرمانهم من المشاركة في أمور الحياة فيه ضرر كبير على حالتهم النفسية، وذلك فــــي حالة استطاعته القيام بعمل خفـــيف يتماشى مع حالته الصحية، وينبغي أن تتاح الفرصة الكافية للشيوخ في تقديم المشورة والرأي. وفي إهمال هذه الأمور إهمال لخبرات السنين الطويلة، وجحود لكفاءات تعب أصحابها وأفنوا الأعمار للتوصل إليها.

وفي دراسة بعنوان (التوافق الاجتماعي للمسنين)، قامت بها نهى السيد حامد، في مدينة القاهرة، حول فئة من المتقاعدين الشيوخ، أسفرت نتائجها عن أن هناك عدة عوامل مهمة لتحقيق التوافق في مرحلة التقاعد، منها قيام المسن بالعمل ما بعد تقاعده، وسعة صلاته الاجتماعية، وتمتعه بالصحة السليمة، وسعي المسن لشغل أوقات فراغه دوماً بما يفيده.

ويجب ألا ننسى أخيراً الدور الحضاري الذي يجب أن يناط دوماً بأجيال العلماء والأدباء والسياسيين والشيوخ، وهو كتابة التاريخ، وتجسيد الخبرات الشخصية، حتى تقدم للأجيال القادمة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد