ركبت ذات يوم مع أحد السائقين الكرام، فلم يربط الحزام فأخذ جرس التنبيه يصدر أصواته لعل صاحبنا يذكر ما قد نسي ويدرك ما قد خفي، فلما طال به الأمد طلب الإذن بالوقوف جانباً، ثم ربط الحزام مباشرة وركب السيارة وأخذ مقودها للقيادة، فأصبح الحزام خلف ظهره، والتفت إلي قائلاً: إنما أراد هؤلاء - يعني صانعي السيارة - إزعاجنا ومضايقتنا بإصدار مثل هذا الصوت، وإلا لماذا لا يكتفون بإشارة ضوئية إن كان ولابد؟ ضحكت من قوله وتعجبت، وقلت له: يا أخي الكريم لقد وضع هذا الصوت لينبه أمثالك لتقوم بربطه بطريقة صحيحة لا كما تفعل، ولم يوضع هذا الحزام إلا لحمايتك وحمايتي وأمثالنا حفظ الله الجميع، ولولا أهميته لما كان المنبه موجوداً، سكت غير مقتنع بما أقول فيما يبدو، ثم تمتم قائلاً: هذه أمور بيد الله، حقاً إن كل الأمور بيد الله، غير أنه سبحانه وتعالى أمرنا أن نأخذ بالأسباب.
في هذا الموضوع ليس الحديث عن الحزام وأهميته، وإنما مبدأ الالتزام بالأنظمة، والتقيد بالقوانين وترويض النفس على ذلك، ومن الحزام وأمثاله يمكن الالتزام بالمواعيد والانضباط بالعمل وتطبيق القوانين، وأن تفرق بين الشفاعة لنيل الحق، والشفاعة للميل بالحق من المستحق إلى غيره، كما قد يمارس من فئة نتمنى أن تكون قليلة، ومن المحزن حقاً أن العامل الديني ومخافة الله من مبدأ الانضباط في العمل وعدم تمييز فلان على نظيره أو فئة أجدر منه ربما قد لاتكون حاضرة عند بعضهم، مخافة الله في التعامل مبدأ رائع لو أخذ به الكثير لسادت هذه الثقافة ولعلا شأن الأمة، غير أن الممالأة والمجاملة والأخذ في الاعتبار بعوامل أخرى مع تناسي مخافة الله في العمل مع انتشار ثقافة الشفاعة غير المنضبطة مأساة كبيرة أدت إلى تأخر في النظام الإداري في كثير من عالمنا العربي والإسلامي.
لقد تقدمت دول في إدارتها لأنها في الغالب منضبطة في نظامها متفانية في عملها، يأخذ كل ذي حق حقه، دون مجاملة أو محاباة إلا في النادر اليسير، والنادر لاحكم له لهذا فلماذا لانستغل هذا المبدأ مبدأ مخافة الله في التدبير الإداري ليكون رقيباً مباشراً ودائما يعوض عما اعتاد عليه بعضهم من فشل في الانضباط تمشيا مع القوانين السائدة، والقواعد الواجب مراعاتها.
مررت ذات يوم في طريق سريع، فقلت سأقود سيارتي بسرعة مائة وعشرين كيلو مترا في الساعة، وهي السرعة القصوى المسموح بها طبقاً للقوانين، وأخذت الجانب الأيسر من الطريق مفترضاً أنني أسير بالسرعة القصوى ولذا فإنه من غير المنطق أن تتجاوزني سيارة أخرى لأن أقصى ما يمكنها السير به هو مائة وعشرون كيلو مترا في الساعة، استمرت الحال وبدأت بحساب عدد الكيلومترات التي قطعتها وعدد السيارات التي تجاوزت سيارتي خلال تلك المسافة، فأحصيت ثماني سيارات، تفاوتت في سرعة تجاوزها فمنها، من تجاوز بسرعة مقبولة ومنها من كانت سرعته متجاوزة المعقول وأخرى لاحت كلمع البصر، لاتكاد تقع عيني عليها إلا وتختفي عن ناظري.
في هذا العدد من السيارات الثماني التي تجاوزتني خلال عشركيلو مترات، ربما لواحد من سائقيها أو الاثنين عذر يستوجب تلك السرعة، مع أن نسبة - اثنين إلى ثمانية ممن لديهم عذر ملزم نسبة عالية لا يمكن قبولها، لكن مع هذا الافتراض فما بال السيارات الست الأخرى قد تجاوزت بتلك السرعة وكسرت حاجز المائة والعشرين كيلو متراً في الساعة، مع وجود رقابة مباشرة، وأخرى إدارية.
إذا كان هؤلاء الستة لا يعبأون بالأنظمة المدنية والمراقبة الرادارية: فأين هم من مخافة الله، وهم يعلمون أن كل صغيرة وكبيرة محصاة، وأن الله سبحانه وتعالى يعلم سرهم ونجواهم، وأن عملهم هذا ربما يقتل نفساً بريئة، ييتم أطفالاً، وينشر الحزن في قلوب آباء وأمهات، أو ربما أبناء على آبائهم أو أمهاتهم وسيفقد الأمة رجالاً ونساء يرجى منهم الخير إن شاء الله.
محزن حقاً ألا نضع الله رقيباً على تصرفاتنا الإدارية والتدبيرية مثلما نضعه رقيباً على سلوكنا الشخصي، وعباداتنا المفروضة علينا من صلاة وصيام وزكاة وحج لمن استطاع إليه سبيلاً، مبدأ مخافة الله وتطبيق رقابته علينا في تصرفاتنا الإدارية كنز ثمين لدى الأمة، ربما يكون الأنفع للخلاص من ثقافة عدم المبالاة السائدة لدى البعض من أبناء الأمة العربية والإسلامية في تعاملهم الإداري والمالي.
هدانا الله إلى سواء السبيل وألهمنا الرشد في القول والعمل.