الناظر في واقع لغتنا اليوم يرى تغيراً مريبا، وتحولا خطيرا، يصيب الناظر بالذهول والإحباط، بل قد يصيبه بالإغماء والرعشة لهول ما يراه من انحسارها عن كثير من جنبات حياتنا الرئيسة.
فلغتنا يفعل بها الأفاعيل، ونحن نائمون، لا نحس، ولا ندرك وتجري منذ زمن بعيد مخططات خبيثة لدى أعدائنا: لقبر لغتنا شيئا فشيئاً، فهم يوسوسون لنا بأن لغتنا العربية عاجزة عن مجاراة الحياة المعاصرة والمستقبلة، وأنها لغة متقوقعة، لا تستطيع حمل العلوم، ولا التقنيات المعاصرة.
وهي وسوسات تنشر بيننا، وتعظم من قبل فئات منا وتجسم، بهرت عقولهم الحياة الغربية الزائفة، فانقلبوا على كل شيء لدينا، واحتقروه، مهما كان عظيما، أو قُل هي الانتكاسة، نعوذ بالله من الانتكاسة.
كيف نزهد في لغتنا وهي العملاقة، ذات الأبعاد والأعماق، حاملة كتاب الله، وسنة رسوله، وكنوز السلف؟! كيف نزهد فيها وهي البحر لا يحيط بكنوزها إلا نبي، وهي التي تحدى الله بها الجن والإنس، وشهد لها أعداؤها بالجمال الأخاذ، والقدرة الفائقة، وسيادتها على لغات العالمين؟!
وإنه لمن المؤسف حقاً أن فئة قليلة من أبناء أمتنا هم وحدهم الذين يدركون عظمة لغتنا، والضرورة القصوى لإقامتها بقوة، والاكتفاء بها في شؤون حياتنا كافة، ورد دعوى المنهزمين.
إن القلب ليتحسر، وإن الكبد لتتفطر من الواقع البئيس للغتنا اليوم. إنه واقع ينذر بكارثة لا يعلم أبعادها وآثارها إلا الله، كارثة يستيقظ بها نائمنا صارخا بأعلى صوت بعد الفوت: ماذا حدث؟! من فعل هذا بلغتنا؟! إنها لجريمة! ويجيبه يقظناننا (بغضب): أنت، وأنا، وهو، وهي، خنقناها بأيدينا، ومزقناها بأسنة رماحنا، ودسناها بأقدامنا، وأبدلنا بها الدنيئة.
ليتنا - إذ لم ندرك قدر لغتنا، وعظيم أثرها في حياتنا - نظرنا إلى ما تفعله الأمم للغاتها، من إكرام، واحترام، وقوامة رائعة، وإعمال، وتفعيل، وتطوير، لا نستطيع مجرد تصوره. وفق ذلك حماية لغتهم من دخيل اللغات الأجنبية، التي يعتبرونها أخطر على لغتهم من الجيوش الغازية المدمرة التي لا تبقي ولا تذر.وكنت في ألمانيا تسع سنوات دراسية، نسيت فيها لغات العالمين، وكأنْ ليس في العالم إلا اللغة الألمانية؛ للقوامة الهائلة، وتكثيف تعليمها لأولادهم بقوة، وحمايتها من اللغات الأجنبية. وكذلك الحال في فرنسا.
وللغة أثر سحري في نفوس البشر. ولا أصل للمقولة المروجة التي يتداولها العوام (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم) بل هي مكر بريطاني؛ لتوطين اللغة الإنجليزية لدى الشعوب المستعمرة، وإنما الحقيقة في ذلك: (من تعلم لغة قوم تبعهم).
يقول شارل ديجول، حاكم فرنسا السابق: (لقد فعلت لنا لغتنا ما لم تفعله لنا جيوشنا، فلغتنا جعلت القوم أتباعا لنا أذلة، وجيوشنا احتلت الديار, ورحلت عنها، وخلفت لنا الكراهية).
إن المرء ليفيق من بلادة أفكارنا وينفر حينما يرى موت غيرتنا على لغتنا، وكل الشعوب لا تغار على شيء كغيرتها على لغاتها؟! ألا نغار على لغة القرآن، والسنة؟! ألا نغار على لغة ديننا ودنيانا، وهويتنا وعنواننا، ومصدر عزنا واحترامنا، وجامعة شملنا وموحدة أفكارنا، وحافظة أمننا وأسرارنا،وآلة علومنا وإبداعنا؟! نعم نحن قد ورثناها مريضة، وسوف نسلمها لمن بعدنا إن لم..... قعيدة كسيحة.
ولا تقولوا قول المخذلين العاجزين: (إنها محفوظة بحفظ القرآن) نعم، هي محفوظة بحفظ القرآن، ولكن لمن يقيمها بعدنا إقامة شاملة واسعة، تفرض على الجميع، وتحمى من الشياطين. وليس كحالنا اليوم يدرسها فقط أهل التخصص؛ طلبا للوظيفة في الغالب. والأعداد الهائلة من أبناء أمتنا في جهل تام بها، فإذا قرؤوا القرآن أقاموا حروفه فقط دون معانيه، قراءة عجمية صرف.
وعلينا نحن العرب يقع الواجب الأول في إقامة هذه اللغة، ونشرها بين العالمين، فذلك واجب لا خيار لنا فيه؛ حيث لا يُفْقَهُ كتاب الله، ولا سنة رسوله، إلا بلغة عربية فصيحة سليمة. وفِقْهُ كتاب الله واجب شرعي، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كما يقول الإمام ابن تيمية وغيره من علماء الأمة. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}.
نعم تقع علينا نحن العرب المسؤولية الكبرى، فنحن أهل اللغة، وقد تفضل الله علينا بأن جعل آخر الكتب السماوية بلغتنا، وخاتم الرسل منا، وهو فضل عظيم من الله وإحسان، فهل شكرنا هذه النعمة، وأدينا الأمانة؟
لقد كنت ضمن مجموعة؛ لإقامة دورة في أمريكا قبل سنوات، وأقمنا دورة في كاليفورنيا لعدة أيام. وكان ضمن المتدربين شاب مكسيكي، كان يمشي وراءنا عقب خروجنا من الدورة، ويصيح بصوت عال، قائلا: (أنتم خونة يا عرب، تريدون هذا الدين لكم وحدكم) - يكررها عدة مرات - ثم يقول: (هذه أوراقي، سجلوني في أي معهد أو مدرسة؛ لتعليم اللغة العربية في بلدكم، ليس لكم معروف، سأدفع الرسوم كاملة، خذوني إلى بلدكم، أو افتحوا لنا معهدا هنا (ثم يكرر جملة: (أنتم خونة يا عرب، تريدون هذا لدين لكم وحدكم).
وقد أرسل إليَّ يوماً فضيلة الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- أحد الألمان، وهو كبير مهندسي شركة بيجل وولده؛ لأجيب عن بعض تساؤلاته، فكان أول سؤال له: (دلني على من يعلمني اللغة العربية بسرعة وقوة، إني أريد أن أقرأ القرآن بلغته التي نزل بها من السماء، لا أريد تشويه المترجمين، ولا عجز اللغات. أريد أن أمسك الحوض بيدي هاتين، حوض القرآن بلغته العربية (ويشير بيديه ممدودتين إلى الأمام، وقد قبضهما، وكأنما قبض فعلا بجدار أمامه) ثم قال: (احمدوا الله على هذا القرآن، إنه طري كأنما أنزل البارحة فلم يعبث به عابث. ونحن في الغرب لو أراد أحدنا أن يعبد الله بقوة وفق الإنجيل فإنه يقع في حيرة، حيث لا يعرف ما حرف منه وعبث به: وما هو باق على أصله). ثم يقول: (ما بالكم لا تعلمون الناس اللغة العربية. منذ سنتين وأنا في المملكة ولم أتعلم كلمة عربية واحدة سليمة، إذا أردت أن أكلم أحد الناس، قفز إليّ بخفة... يكلمني باللغة الإنجليزية) (ووصفه بصفة قبيحة، وغضب، وتمعَّر وجهه، وهو يصف لي الحركة).
إن إقامة اللغة العربية مسؤولية كل فرد من أفراد هذه الأمة، كل بحسبه وقدرته؟ فلا يعفى أحد من هذا الواجب، فإن لم يستطع أن يقيمها بواسع، فبحسب قدرته، ولا يعفى أحد من إقامتها في نفسه، ومن تحت يده. وإن مجرد النداءات لإقامتها والتوجعات، هي صرخات في الهواء، بل قد تكون لونا من الشماتة، إن لم تتبع هذه النداءات بالعمل. فلو أن كل غيور أخذ على نفسه - على الأقل- ألا يتكلم إلا باللغة الفصحى، وربى أولاده، وأهله على ذلك، لكان هذا خيرا عظيما، وكسرا لحاجز عقدة التحدث بالفصحى، ولكان ذلك نصرة لكتاب الله، وسنة رسوله، وإحياء لثروات السلف الصالح العظيمة المعطلة، وقدوة حسنة، وإحياء لسنة، وإنهاء لمنكر، وإقامة لمعروف. وهذا واجب على كل فرد قادر، غيور على دينه، ولغته.
وأما المؤسسات الحكومية فعليها بذل قصارى الجهد في ذلك؛ حيث إن الدولة - حفظها الله- ائتمنتهم على هذا الأمر، كل بحسب تخصصه، ولا يعفى من ذلك أي جهاز حكومي. فالواجب الأول يقع على الأجهزة التعليمية من أعلاها إلى أدناها، رجالاً ونساء، سواء كان تحت قيادتهم المباشرة، أو تحت إشرافهم، وإنها لأمانة عظيمة أمام الله. فضياع لغتنا ضياع لديننا، ودنيانا، جملة وتفصيلا. وعلى وزارة التخطيط أن تفعل شيئا للنهوض بلغتنا؛ للحفاظ على أهم ممتلكاتها، ومقوما حياتها. وكذلك وزارة الإعلام؛ حيث إن ركنها الركين، وواجبها العظيم -إعلام الناس بالخير والشر؛ ليأخذوا بالخير، ويحذروا الشر. فالتوعية الإعلامية بضرورة إقامة اللغة العربية من أعظم واجبات وزارة الإعلام. وعلى وزارة التجارة الواجب الأول في حماية لغتنا من لوثات التجار المشوهة لشوارعنا بكل ساقط من لغة أجنبية، وعامية.
وهذا طرف من أصحاب الشأن في ذلك:
1- مجلس الشورى. 2- المجامع اللغوية.3- البحث العلمي للتنمية والتطوير. 4- المتخصصون في اللغة. 5- العلماء، والأدباء، والمفكرون، وأصحاب الرأي.
وليس الأمر مقصورا على هذه الجهات، أو الأفراد، وإنما يعم كل من وُكِلَ إليه أمر في بلادنا، بلاد الحرمين، ومنبع الإسلام، حفظها الله من كل سوء. وللحديث بقية...
المعهد العربي للمهارات اللغوية والتعريب