أقولها وبكل فخر لكل إنسان عربي ومسلم (اشكروا الله على عبدالله).. فهذا الرجل دائماً ما يثبت وبكل حق أنه مسكون بهمِّ الأمة جمعاء.. ففي كل أزمة تجد الأمتين العربية والإسلامية نفسيهما فيها، يتجلى هذا البدر ويرغم الجميع على احترامه.. ولو أردنا أن نبحث عن سر هذا النجاح لما احتجنا إلى عظيم عناء.. فالملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- إنسان صادق.. فهناك توافق تام بين قلبه ولسانه.. وهذا سر تميُّزه.. ومن هنا لا نجده -حفظه الله- يقع في فخ التناقض الذي يقع فيه غيره من أولئك الذين يخفون غير ما يبدون.
ولعل قمة الكويت الأخيرة كانت المحفل الذي شهد آخر أحد أروع الأمثلة التي ضربها الملك العادل في حرصه ليس فقط على وطنه، بل على أمتيه العربية والإسلامية، حيث فاجأ -حفظه الله- الجميع بذلك الخطاب التاريخي الذي يُسجل وبكل فخر بكلمات من ذهب.. حيث جاء هذا الخطاب مختلفاً عن غيره من الخطابات حول رؤيته للأمور.
حيث بدأ -رعاه الله- بالتمييز بين الاقتصاد رغم دوره الكبير في الحياة وبين الحياة والكرامة.. يقول -رعاه الله-: (لكن الاقتصاد مهما كانت أهميته لا يمكن أن يساوي الحياة نفسها ولا الكرامة التي لا تطيب الحياة بدونها).. وهذا هو ديدن الشخصيات الحرة والدول الحرة لا يعدل الكرامة عندها أي شيء.
ثم تحدث عن الإرهاب الصهيوني وما قام به في غزة مخاطباً اليهود بما ورد في كتابهم التوراة.. وهنا يضع -رعاه الله- العقلية الصهيونية أمام تناقضها الواضح.. فكيف يتسنى للصهاينة القيام بهذه الإبادة الجماعية وتوراتهم تقول: العين بالعين والسن بالسن.. ولا سيما أنهم يدَّعون الإيمان بالتوراة.
يقول -حفظه الله-: وقد شهدنا في الأيام الماضية مناظر بشعة ودامية ومؤلمة, ومجازر جماعية تُنفذ تحت سمع العالم وبصره, على يد عصابة إجرامية لا مكان في قلوبها للرحمة, ولا تنطوي ضلوعها على ذرة من الإنسانية.
لقد نسي القتلة ومن يناصرهم أن التوراة قالت (إن العين بالعين, ولم تقل التوراة إن العين بمدينة كاملة من العيون).
وهنا يوضح -رعاه الله- للحكومة الإسرائيلية بأن السلام فرصة.. وأن ما يتوفر اليوم من جو قد يساعد على هذا السلام قد لا يتوفر غداً.. حيث قد يضطر العرب في يوم من الأيام إلى نسيان خيار السلام، واستبداله بخيار الحرب.. يقول الملك عبدالله: (إن على إسرائيل أن تدرك أن الخيار بين الحرب والسلام لن يكون مفتوحاً في كل وقت, وأن مبادرة السلام العربية المطروحة على الطاولة اليوم لن تبقى على الطاولة إلى الأبد).
ولم يفت عليه -رعاه الله- أن يشيد بصمود غزة ويحيي شهداءها.. وفي هذا دفعة معنوية كبيرة لهذه المدينة المكلومة.. ولا سيما أن هذه الكلمات صادرة من رجل بحجم خادم الحرمين الشريفين.. يقول -حفظه الله-: (إننا نحيي شهداء غزة, ونحيي أبطالها وصمودها).
وبثاقب نظره -حفظه الله- وغيرته المعروفة على القضية الفلسطينية توجه -رعاه الله- إلى الإخوة الفلسطينيين مبيناً لهم خطر الفرقة عليهم.. وتقتضي الأمانة هنا أن أقول لأشقائنا الفلسطينيين إن فرقتهم أخطر على قضيتهم من عدوان إسرائيل, وأُذكِّرهم بأن الله, عز وجل ربط النصر بالوحدة, وربط الهزيمة بالخلاف, مستذكراً معهم قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ).
ونظراً لأنه من الثابت في علم حل المشكلات أنك حين ترغب في حل مشكلة ما، فإنه يتوجب عليك الارتفاع عن مستوى المشكلة ومحاولة إيجاد الحل لما هو أبعد من المشكلة المطروحة..
ومن هذا المنطق جاء تميُّز خطاب خادم الحرمين الشريفين -رعاه الله-.. فهو لم يركز فقط على ما تعرضت له غزة، بل تحدث صراحة عما هو أكبر وهو فرقة الصف العربي.. حيث جاء خطابه مباشراً وصريحاً كعادته حيث قال: يجب أن أكون صريحاً صادقاً مع نفسي ومعكم فأقول: إ
ن خلافاتنا السياسية أدت إلى فرقتنا, وانقسامنا, وشتات أمرنا, وكانت هذه الخلافات وما زالت عوناً للعدو الإسرائيلي الغادر, ولكل من يريد شق الصف العربي لتحقيق أهدافه الإقليمية على حساب وحدتنا وعزتنا وآمالنا.. فهو يتحدث -حفظه الله- عن شتات الأمر العربي، ذلك الشتات الذي كان وراء أحداث غزة الأخيرة كما كان وراء غيرها من الأحداث المماثلة في السابق.. لذلك ليس من الحكمة محاولة معالجة أحداث غزة الأخيرة دون معالجة الأسباب الكامنة وراءها.. فما أحداث غزة هذه إلا عرض لمرض.. وهذا المرض هو ما أسماه خادم الحرمين الشريفين (شتات الأمر).. وهي تسمية دقيقة حيث تصف واقع الأمة العربية.. ومن هنا يرى -رعاه الله- أن الحل لمسألة غزة يكمن في الدرجة الأولى في لمّ شتات الصف العربي.. حينها سيكون من المستعصي على العدو اختراق هذا الصف.
ولقد حمَّل -رعاه الله- حكام الأمة العربية مسؤولية هذا الشقاق وما ترتب عليه من آثار سلبية أوصلتنا إلى ما نحن عليه.. يقول -رعاه الله-: (إننا قادة الأمة العربية مسؤولون جميعاً عن الوهن الذي أصاب وحدة موقفنا وعن الضعف الذي هدد تضامننا, أقول هذا ولا أستثني أحداً منا).. وهذه صراحة غير معهودة على مستوى الخطاب السياسي العربي.. فمَنْ رأى حاكماً عربياً يُحمِّل نفسه مسؤولية ما يحدث؟.. فها هو خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز يعمل ذلك مع أنه بعيد كل البعد عن هذه المسؤولية.. فهو ودولته يبذلون الجهد والمال والوقت من أجل تضميد الجراح العربية والإسلامية.
ولم يكتف -رعاه الله- بتشخيص المشكلة، بل طرح الحل الناجع لها وهو نبذ الخلافات وتناسي الماضي المشين والمتسم بالفرقة والتناحر.. حيث يقول: لقد مضى الذي مضى, واليوم أناشدكم بالله جل جلاله, ثم باسم الشهداء من أطفالنا ونسائنا وشيوخنا في غزة, باسم الدم المسفوح ظلماً وعدواناً على أرضنا في فلسطين المحتلة الغالية, باسم الكرامة والإباء, باسم شعوبنا التي تمكَّن منها اليأس أناشدكم ونفسي أن نكون أكبر من جراحنا, وأن نسمو على خلافاتنا, وأن نهزم ظنون أعدائنا بنا, ونقف موقفاً مشرفاً يذكرنا به التاريخ وتفخر به أمتنا.. ومن هنا اسمحوا لي أن أعلن باسمنا جميعاً أننا تجاوزنا مرحلة الخلاف, وفتحنا باب الأخوة العربية والوحدة لكل العرب من دون استثناء أو تحفظ, وإننا سنواجه المستقبل -بإذن الله- نابذين خلافاتنا, صفاً واحداً كالبنيان المرصوص مستشهدين بقوله تعالى: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ).
(وكان ختامها مسكاً.. حيث جاء تبرعه -حفظه الله- متناسباً مع الحدث.. يقول -رعاه الله- قبل أن أختم كلمتي هذه أعلن نيابة عن أشقائكم شعب المملكة العربية السعودية عن تقديم ألف مليون دولار مساهمة في البرنامج المقترح من هذه القمة لإعادة إعمار غزة مدركاً في الوقت نفسه أن قطرة واحدة من الدم الفلسطيني أغلى من كنوز الأرض وما احتوت).
أليس بعد هذا كله من حقي أن أقول: (اشكروا الله على عبدالله)؟
*Alabri3@hotmail.com