الخطاب التاريخي الذي ألقاه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز جاء بكل المقاييس في مستوى طموحات الشعوب، وتفوق كثيراً على ما كان مطروحاً من رؤى على الساحة العربية كلها. بل إن هناك من أكد على أن الخطاب كان في حجم المفاجأة، لأنه تجاوز حتى كل المواقف التي كانت تبدو متقدمة في طرحها لآمال الأمة، وبدد كل المخاوف التي كان يبديها البعض حيال قمة الكويت باعتبارها قمة اقتصادية، وهو ما يجعل مسألة غزة التي طرأت على العرب جميعهم تقف على هامش المؤتمر، بل إن هناك من ازداد خوفاً من أن تكون غزة في عرض لقاء تشاوري قد لا يفضي إلا إلى آراء لن ترقى بأي حال من الأحوال إلى مستوى الحدث الجلل الذي أصاب غزة وأهلها. وحين عقد اجتماع الدوحة، وخرج بتوصيات رآها البعض دافعة بقوة لقمة الكويت، وتخوف البعض من عدم ارتقاء قرارات قمة الكويت إلى مستوياتها، لكن هؤلاء جميعاً وجدوا أنفسهم بعد خطاب خادم الحرمين الشريفين أمام وضع جديد، فاق في معطياته مقررات الدوحة، وطموحات الكثيرين في الساحتين الرسمية والشعبية العربية.
ولعل أهم ما ارتكز عليه الخطاب هو النظرة الشمولية لما يجب أن يكون عليه حال الأمة، وقد تتوجت هذه النظرة بالمصالحة التاريخية التي رعاها خادم الحرمين الشريفين بين عدد من قيادات الدول العربية التي كانت قبيل انعقاد قمة الكويت تقف في واجهتين متقابلتين ولقد كان -حفظه الله- واضحاً حين وجه خطابه إلى الحديث عن مأساة غزة، فسمى الأمور بمسمياتها، فكانت الجريمة، والصهاينة والعدوان، والبغي من أهم المفردات التي لها معانيها السياسية، والتي جاءت في الخطاب لتؤكد على دور المملكة العربية السعودية المبدئي في التعامل مع قضايا الأمة المصيرية، ومع أعداء الأمة الذين تطاولوا في عدوانهم الغاشم، وظنوا لوهلة أن الإجماع العربي المفقود قد يتيح لهم اللعب بأقدار ومقدرات المنطقة.
إن التبرع السخي الذي قدمه ملك الإنسانية باسم أبناء شعب المملكة إلى أهلهم وأخوانهم أهل غزة المنكوبين إنما يشكل بالتأكيد الالتزام الأخوي الصادق، والدور الإنساني الكبير الذي كانت ولا تزال المملكة العربية السعودية تقوم به تجاه إخوانها العرب وأشقائها المسلمين، كما يؤكد هذا العطاء السخي على أنه اللحمة العربية لا يقف دونها مال ولا خلاف، وأن المملكة ستظل بحول الله رائد النصرة لجميع الأخوة والأشقاء، لأنها تشاطرهم المصاب، وتقف أمامهم في تخفيف الألم وتضميد الجروح.
للذين حاولوا التشكيك في دور المملكة، كان خطاب ملك الوحدة والصلح خير جواب وأفضل رد وعلى الجميع في مشارق الأرض ومغاربها أن يعيد الحسابات، كل الحسابات التي كان يتعاطاها عند الحديث عن المملكة، ظناً منه أن سكوت القيادة الحكيمة عن الدخول في الردود والملاسنة إنما يعد ضعفاً، بينما بين خادم الحرمين الشريفين بالفعل لا بالقول.. أن المملكة ترقى فوق كل كلام إلى ميدان الفعل الحكيم والموزون.. وتاليتها؟!!