عندما كنا صغاراً لم يكن عود الثقاب يمثل لنا غير شعلة نتقافز من حولها وهي تضيء لنا أماسي الصيف أو الشتاء... ونحن نحلق بأجنحة وفيرة بالبراءة والياسمين حول جلسات الأهل وهم يتناولون أقداح الشاي أو الحليب الساخن في الشتاء وعصائر الصيف... لكن عود الثقاب كبر عندما اختار مخرج برنامج الأطفال واحدة من الزميلات لتنشد (ياللي بتلعب بالكبريت الكبريت كله أخطار).. يومها حام في رأسي لفظ الأخطار، وكنت مغرمة بمعرفة معنى أي لفظ يداهم سمعي أو عيني... وكبرت بعدها شعلة الثقاب.. وامتزجت بحرقة النار، واستقر مفهوم الرابط بين هذا العود وشعلته وبين مستصغر الشرر الذي منه تتقد النار في الهشيم...
لكن الآن اختفى عود الثقاب وحلت مكانه الولاعات بأشكالها وألوانها وأحجامها ومعادنها الثمين فيها والزهيد من أثمانها.. ولم يعد لعود الثقاب إلا أبهة التراث في حجرات وصالات الفنادق الفارهة.. وأصبح الإنسان يقتنيه لأنه يحمل شعار المكان الذي نزل به، أو البلد الذي ساح فيه...!
وبقي من هذا العود الثقاب الذي تطور من بارود خام له زخم حاد يخشاه الصغار وتلعق ألسنة الكبار شفاه الحيل حين تتنمر النيات لإيقاد الهشيم في معمعة البقاء وحرب المعاش ومكافحة الأنداد والإطاحة بالمتنافس.. لتغدو ثقاباً من مواد أخرى تطورت اطراداً مع تطور قدرة الإنسان لصناعة النار.
تخيلت عود الثقاب وطفولة حذرة من لسع طرف الإصبع... وفوهة البركان تسيل حممه في صدور وعقول مدبري اللهيب الذي تستعر في أتونه الدنيا من حول الضعفاء العزل.. الذين اختفى في حياتهم عود الثقاب لأنهم لا يقوون أبداً على مناطحة الصاروخ أو حمل القذائف... هم عزل من البارود.. لم يواكبوا نموه ولم تنضج طفولتهم في مداراته النارية.