هل المطلوب من أطفال غزة أن يتعوّدوا اليتم أن يتكيّفوا مع العيش وسط الأنقاض أن يعودوا لمدارس أحرقتها الغارات الإسرائيلية وأثثتها بجثث رفاقهم وآبائهم وأمهاتهم وجيرانهم.؟
هل ستعيد محاولات الإعمار الحياة الطبيعية إلى غزة ولا زال الباب موارباً لهجمة جديدة مؤجّلة لأجل قد لا يكون بعيداً.
أتابع مناظر الخراب التي خلّفتها المحرقة الوحشية التي شنّتها الصهيونية وأتباعها على غزة، فأجدها لا تقل تحدياً لإنسانيتنا واستفزازاً لكرامتنا من تلك المحرقة نفسها.
أتابع الانقسامات السياسية على أموال إعادة الإعمار، فأشعر بكل معاني العار تعري الفضيحة مهما تفنن الساسة في تخيّر أسماء أخرى لخزيها الباذخ.
أتابع تلك الكتابات المتخبطة في التنظير للدمار والخراب، وكأنه كارثة طبيعية حملتها لنا الرياح من الجيران الأشرار عبر حدود الجيران الحملان الطيبين الذين لولا أولئك الأشرار لكنّا وإيّاهم أبناء عم ونعم أصدقاء.
أستعيد تلك المواقف الضميرية التي اعترت شعوب العالم والشعب العربي وأحيت القضية الفلسطينية كقضية ضمير في الوجدان الشعبي والعقل الإنساني , فأخشي شيئاً فشيئاً أن نعود لحالة الخنوع والموات بمزيد من عمى الألوان.
* * *
تتلبّسني حالة عزوف عن الكتابة، كأنني كلّما اقترب موعدها أستعد للذهاب إلى تهلكة أو اقترب عزلاء إلاّ بتباريح الروح وعوادم الهواء من حافة هاوية مريعة لا أدري من هي الأيدي التي تدفعني إليها، كما لا أدري أي الفؤوس والمساحي ستتلقفني فيها وتهيل ترابها على قامتي. فلا يسمع أحد من قرّاء جريدة الجزيرة يوم الأربعاء دقّات قلبي وقد تركتني وحدي أنبش الكلمات علّني أروغ من الوقت بضعة أعوام أخرى أو أياماً قليلة، قبل أن أرخي يدي عن القلم لتكون آخر ما يدخل من جثماني إلى فسحة قبري بمشيئة الله.
لذا أحرّك مفاتيح الكمبيوتر على غير هدى في محاولة أن أؤخر ساعة الكتابة، وبمجرّد أن أقرب أصابعي من عقاربها يرفع عقرب الثواني شوكته ويبدأ بشك كفي بزعاف سمومه المصفاة وحلكة ليلي المعشقة بتباريح السهر، حتى أكاد أستسلم للمضي معه عكس عمري بطواعية وغبطة وسمو أولئك السلاطين في المخيلة القصصية أو سجلات التاريخ، الذين ارتضوا التنازل عن عروشهم في لحظة طيش عشقي.
* * *
وصلتني رسالة جوال من الزميل محمد الفيصل تذكّرني بموعد المقال. فاعترتني تلك المشاعر التي هي مزيج من الإحجام والإقدام، التراجع والتقدم، الرهبة واللهفة عندما نكون على حافة شفرة أو على شفير أن تفوتنا رحلة. فنتجاهلها جميعاً ولا نصغي في كل تلك الأصوات المصطخبة داخلنا، إلاّ إلى الصوت الذي له سطوة التهديد بالفقد لنقذف بأنفسنا طوعاً أو كرهاً بالاتجاه الذي يدعونا إليه الصوت. كأننا لم نعد نملك من أمر خياراتنا إلاّ عدم التأخير للحاق بما يكاد يصير في حكم حتفنا. إذ عندها كما لا يعبأ القبطان بتلك السواعد المعلقة بين اليابسة وبين البحر، وهي تلوح مناديل الوداع المبللة بلوعة الفراق وتوجس المجهول بعدم العودة، فإنّ مواعيد النشر لا ترحم تأخر الكُتّاب في الالتزام أو مرورهم بحالة تشبه حالة أحزان ما بعد الولادة ومزاجها الحاد التي تلحق بأرواح الناس بعد الحرب، خاصة إذا كان توقف الحرب هو لانتظار الحرب التالية.
فليس لركضنا اليومي في الاتجاهات الخاطئة أو الصائبة، أن يتعاطف مع ما يصيبنا من حالات الذهول، وإن بعد حرب انتهكت كرامتنا ورمت مصائر الأطفال لليتم والعراء والتقاتل على كيفية توزيع موارد إعادة إعمار لن تعيد، وإن بلغت المليارات ترميم الخراب التاريخي الذي لحق بحلم السلام. وانكى أن ذلك الركض اليومي وإن تعاطف مع ما يراه من تقيّح الجراح أو تشقّق الأوردة، فإنه ليس معنياً بأن يفضّ تلك الاشتباكات الدامية بين الكاتب وبين كتابته. وكل ما في وسعه أن يفعل هو أن يطلب من الكاتب أن يغسل كلماته من دمه وتقرّحات سهره وسخطه وغضبه، وأن يمحو ما ألمّ بها من آلام الكتابة ومخاضاتها قبل أن يعرضها لعين الرقيب أو صباح القرّاء.
والموقف الصعب هنا هو كيف يمكن الكتابة عن الحرب , الضحايا, الحرمان , الحب، البلح، الحرية، التسامح، الحد، اللحد، الحمل، الحلم، الروح، النجاح، الانسحاب، الحنطة، التباريح، الرحيل، القبح، الحلى، الحلال، الحرام، البحر، السحاب، الصحراء، التفاح، الحوار، الحياة، حمامة السلام، الأحياء, الوحدة الجارحة والأحزان المبرحة دون استخدام حرف الحاء. كيف يمكن الكتابة عن وحشية الحروب، إذا أخفيت جثث القتلى وأحرقت السجلات التي تدل على أنهم كانوا هناك أحياء يرزقون قبل اشتعالها بثوان.
هل يمكن الكتابة عن العدل، المساواة، الشعر، التشكيل، الخضرة، الأرض، السماء، الشمس، القمر، الأمل، الماء، الصبر، الطفولة، العنفوان، الإباء، الجمال أو الوجه الحسن، بغير أشواق المجتمعات البشرية ومحاولاتها الفاشلة والناجحة معاً على مرّ العصور، لاستدراج تلك الكلمات المتكبرة خارج القاموس وتوطينها بين الناس. وهل يمكن كتابة تلك الكلمات بحبر سرّي لا يلحظه أعداء الحياة وحرّاس اللغة الذين يتذرّعون في محاصرتها بالخوف عليها من النزول إلى الشارع والاختلاط بالأطفال والحالمين والعشاق والشعراء.
هل يمكن الكتابة عما يجري في العالم اليوم وما يجري على الأرض العربية وعن ما خلّفته محرقة غزة بالقفزات، بينما المخالب والخطافات تخترقنا فتزيد من تخبّطنا وشتاتنا وضبابية خياراتنا وعجزنا عن تقبل اختلافنا وتردينا في تخلّفنا وانقسامنا بيننا. هل بنا حاجة في هذه اللحظة إلاّ إلى كتابة إذا لم تقل كلمة حق فعلى الأقل لا تولم لنا بآلامنا ولا تدخلنا في نفق النفاق ولا تورّطنا في قصر نظرها أو آنية مصالحها.
فأيّ كتابة إلاّ تلك الكتابة التي تتلوّى كأفعى وتحطّ على فرائسها كعقاب، أو تسكت في كلامها كشيطان أخرس، يمكن أن تنقذنا من كلّ هذا الهوان أو على الأقل لا تشارك في الاحتفاء به كتلك المواقف التي تحاول بدم بارد أن تمحو صمود غزة ومقاومتها تبريراً لجبنها ولعجزها؟
كم نحتاج في هذه اللحظة إلى كتابة لا تتشفّى بنا، ولكنها في نفس الوقت لا ترتكب جريرة تجميل أخطائنا أو تشجيعنا عليها, أو تزيين معونات الإعمار كتعويض عن الحياة. ففي هذه اللحظة هناك تطورات معقّدة على المستويين الداخلي والعربي والإقليمي والدولي يجري تناولها بتبسيط مخل. وكأنّ هذه الغمّة العميقة على العالم العربي ليست إلاّ غيوماً عابرة رغم أنها تمحو عن سمائنا وأرضنا الهواء لعدّة أجيال . إنّ هذا التعقيد هو ما يجعل الكتابة أمراً في غاية الضراوة والدقّة والمسؤولية الجسيمة. لأنّ الكتابة في هذه اللحظة تحتاج إلى الحس النقدي في التحليل، تحتاج إلى عيون زرقاء اليمامة في حدّة البصر، وتحتاج إلى بوصلة استراتيجية في الرؤى، تحتاج إلى منديل الأمان من القيادات, كما تحتاج إلى ضمير حي .. ضمير حي .. ضمير حي.
وهذا النوع الصعب من الكتابة الذي نحتاجه هو التحدي الذي يحدوني لأن أشعر كلّما اقترب موعد المقال بفداحة المسؤولية وبعظم الأمانة التي يلقيها على كاهلي الناحل واجب الكلمة النزيهة المحاربة.
هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyah@maktoob.com