إعجابٌ منقطع النظير بمن تحدَّث من أطفال فلسطين بغزة، إعجابٌ بصمودهم وإحاطتهم بكل القضية، والأهم إيمانهم المتمكِّن فقد قال أحدهم: نحن على أرضنا نفديها بالروح والدم.. وعليها نقيم وبها نتمسك من المنشر إلى المحشر.
لكنَّ الإعجاب يختفي من ورائه أو يلازمه حزنٌ عميق من واقع مشاعرهم ومأساتهم، سنبقى لسنين نتذكَّر دلال ودموع دلال وتساؤلاتها، لقد فقدت جميع أفراد أسرتها، وهي تتساءل ما ذنبي وكيف ولماذا؟.. تجاوبها دموع الأسى والحزن من عيون أضناها السهد لعذاب الفراق بأشواق اللقاء ومجاهل الطريق.. لقد أثارت كل الشجون لأنها تُجسِّد مأساة حقيقية لطفلة اختفت منها الابتسامة إلا حين رأت قطتها التي تُمثِّل الذكرى الوحيدة لأسرة أفناها العدو كما لو كان ليس من مستهدف غير هذه الفتاة على الرغم من أن الجميع في قائمة الاستهداف.
حديث الأطفال مؤثرٌ يستحوذ على الإعجاب ويستنزف الألم والحزن أمام حقيقة اللا إنسانية واللا رحمة واللا خوف واللا تقوى مارس بأثرها الصهيوني عدوان القرن، أولئك أحفاد من قال وقالوا معه عن النازيين وعذاباتهم، الأمر الذي أوشك معظم أهل المعمورة على تصديقه وإن كان قد حدث فهو بالحدّ الأدنى نسبة لما يذكرونه ويبالغون فيه وفي عدده، وبأخلاق الاحتلال والعدوان فالسرقة هي السرقة، فلماذا هانت عليهم كرامتهم وشرفهم، فالأرض الألمانية محط النازية أولى لهم من الأرض احتلالاً وعدواناً، وإن كنّا نرفض ذلك فالأرض لأصحابها حق مؤكد ولكن حركة الاستعمار من واقع وهمّ المصالح وجبلة العدوان ضلت الطريق فزرعت ورماً خبيثاً في ربوع أرضنا كرأس حربة لهم، رأسُ حية تبادر إلى إفراغ السمّ حتى وإن كان هدراً لمخزونه وبها ترسم إطاراً لسارق الأرض وسلوكه وأخلاقه وحالته النفسية.
إنَّ دموع وحسرة وحزن دلال لن تتمكن بقوة تأثيرها أن تنفذ إلى وجدان الصهيوني، وربما أنَّ في إشارة أحاديث الأطفال ما ينبّه إلى ملامح مستقبلهم مع القضية، ومستقبل العدو معهم إن استطاع العدو أن يفهم ذلك وسيبقى صمودهم على الأرض صموداً من المنشر إلى المحشر كما قال بهذا أحد الأطفال.
إنَّ الأشياء من كثرة وضوحها تختفي فأجد أنَّ قلمي عاجز عن وصف لحظة من لحظات الحزن الذي ألمَّ بدلال، أو أن أصفه غير أنها بكت فبكينا، وأنَّ الأطفال بصمودهم وعزيمتهم أخذونا نحو الأمل والرجاء.
إنَّ الأشياء وفق طبيعتها تستجيب لمنعطفات الطريق ولكن إلى حين، وسرعان ما يستقيم وتختفي منعطفاته فينتصر الحق بانزهاق الباطل، فهذا الورم الخبيث لا بد له وأن يختفي عن أرض لا تستطيع استيعابه وأهلها يأنفون من بقائه بينهم، وهم من سيزيحه -إن شاء الله- حتى وإن كانت الهمَّة اليوم متواضعة فلا بدّ لها من يوم قريب، فلا عدوان ولا احتلال به أحد يستقر ويأمل النمو والتطور وإن كان المفروض أن يستفزّ العدو عجلات النمو والتطور لصدّه وردع غروره وغطرسته.
لقد تضافرت جهود الأخيار مع أحداث غزة فنقول لهم يا رجال الخير من منظمات عدة تُعنى بحقوق الإنسان.. وكذلك نذكّر الأمم المتحدة بأسباب إنشائها.. وأهم ذلك الأمن والسلام لأهل الأرض جميعاً وإن كان لنا عتبٌ على أمين الأمم المتحدة الذي يقول حقاً ثم يناقضه في مكان آخر، ومع ذلك نقول لهؤلاء إنكم تتحركون وفق منهاج معدّ ومرسوم لكل منظمة من منظماتكم وما عليكم إلا الانصهار مع كلمة الحق ومعناه.. وأن لا يكون ما سمعناه فوران اللحظة لاحتوائها بقصد أو بدونه.
والغريب أنَّ الأمم المتحدة ستقيم دعوى على الصهيوني لما لحق بمقرّاتهم من عدوان مقصود، وكأنَّ الأرض ليست من مسؤولية هيئة الأمن والسلام؟ والغرض الذي أُنشئت من أجله، ومع ذلك نلحق ببعض من إيجابيات القول فعسى أن يتحقق شيءٌ منها، فالتاريخ لا ينسى وإن نسينا فعارٌ على كلّ قلبٍ ينبض على هذه المعمورة أن يجعلَ من دماء الأبرياء والمظلومين حياة لقلبه، فلنتذكر ذلك، فالتاريخ لا ينسى.