Al Jazirah NewsPaper Tuesday  27/01/2009 G Issue 13270
الثلاثاء 1 صفر 1430   العدد  13270
درب السلام الصعب
د. حسن بن فهد الهويمل

 

عندما أشرت إلى كتاب (هنري كيسنجر) وزير خارجية أمريكا الأكثر إثارة في الفترة من 1973 - 1977م (درب السلام الصعب) في سياق حديثي عما يتوقع من السياسة الأمريكية في فترة الرئيس الجديد (باراك أوباما) إزاء القضايا العربية والإسلامية،

خشيت أن يتبادر إلى الذهن أن هذا الكتاب يتحدث عن السلام في الشرق الاوسط وقضيته الرئيسة (قضية فلسطين)، أو قد يتصور البعض أنني أشرتُ إليه دون إلمام بمحتوياته وبالفترة التاريخية التي عالجها بمنهج تاريخي مُسَيَّس، ولأهمية (كيسنجر) بوصفه من أبرز وزراء الخارجية الامريكية وأخطرهم على مجمل القضايا ذات المساس بالمصالح الأمريكية فقد تركْتُ جملة من الكتب المؤلفة والمترجمة التي استرفدتها لكتابة مقالي عن آلية انتقال السلطة إلى الرئيس المنتخب تركتها على المنضدة ولم أعِدْها إلى حقولها المعرفية في مكتبتي، ومن بين هذه الكتب (درب السلام الصعب) وكتابه (محاكمة هنري كيسنجر) لمحاولة تقصي أثر هذه الأطروحة الأكاديمية المبكرة على خطوات الوزير وقراراته الأكثر إثارة وتأثيراً، ولا سيما أنه يهودي يمتلئ حقداً وضغينة على الأمة العربية والخصم السياسي الذي تصدى لجرائمه (كرستفر هتشنز) لم يشر بالتفصيل إلى منطلقاته (الايديولوجية) ومدى تأثيرها على اجراءاته العملية، وأحسب أن رسالته للماجستير التي كانت تحمل اسم (عالم أعيد بناؤه) ثم حول الاسم إلى (درب السلام الصعب) بعد الترجمة أو قبلها - لست أدري - هذا الكتاب حداه إلى ممارسة المثلية حين أصبح من صقور البيت الأبيض مستشاراً للأمن القومي فوزيراً للخارجية ل(نيكسون) و(فورد) أو رئيساً للهيئة الفدرالية المشكّلة لتطوير السياسة الأمريكية تجاه أمريكا الوسطى أو رئيساً لِلَّجْنةِ المسؤولة عن التحقيق في هجمات الحادي عشر من سبتمبر، لقد عاش غصة حرب رمضان التي فتحت بصيصاً من الأمل في كفاءة المقاتل العربي، ثم انطوى هذا البصيص إلى ما يشاء الله بفعل هذا الصهيوني الماكر الذي يقول عنه (القاموس السياسي): (ولكي يجيد القيام بدوره وضع على وجهه قناعاً يستخدمه في مصر وآخر في إسرائيل لهذا كانوا يسمونه المنافق السعيد) والقاموس نقل هذا الكلام عن شاهد من الأهل فلقد نسب إلى (دانيل مونييهان) رئيس الوفد الأمريكي في الأمم المتحدة نقلا عن كتابه (المكان الخطر) أي وزارة الخارجية، والكتاب الذي نحن بصدد الحديث عن أثره على مسيرة (كيسنجر) الدبلوماسية، مسيرة الخطوة خطوة التي كان من نتائجها ما تمخض عنه لقاء (كامب ديفيد) الذي فتح الباب على مصراعيه لدول الهرولة والتطبيع وفتح السفارات والقنصليات واستقبال الأعداء في عقر الدار وأخذهم بالاحضان، وإحْداثِ فراغ سيادي أدى إلى تحرك (إيران) و(تركيا) لممارسة الوصاية على قضايا الأمة وتصدير الطائفية والمزايدة على قضاياها، و(كيسنجر) الثائر لمصالح العصبة اليهودية والمثير بالتواءاته يستعرض في كتابه ويصف ويحلل الاحداث الجسام التي وقعت في عشر السنوات الواقعة بين عامي 1912 - 1922م وإن امتد رصده ليستوعب تاريخ (نابليون) في العمق، وإلى (هتلر) على مشارف المستقبل، ولأنه ربيب الكواليس وبطل (اللوبيات) فقد اهتم في مطلع حياته بمخاضاتها، ولأنه نسل من عفن السياسة دراسة وممارسة فقد أوقع (نيكسون) في فضيحة التنصت، وخرج منها سالماً يتربص، كما اصطدم بمثاليات (فورد) الذي خسر جولة السباق إلى البيت الأبيض بسبب مثالياته، حيث استخدم حق (الفيتو) مع المجالس النيابية بشكل مثير للتساؤل في الفترة الرئاسة المتبقية لسلفه المستقيل (نيكسون)، لقد نسل من عباءة التاريخ المسيس واختار خطة مستشار (النمسا) (ميترنيخ) التي رسمها بإحكام لإعادة بناء أوروبا بعد الحروب الطاحنة التي كادت تنهك الأوروبيين وهي الخطة التي تهدف لسلام المائة عام، وإذ يبرز في المشروع مستشار (النمسا) فإن وزير خارجية (بريطانيا) إذ ذاك ساند وساعد، وكانت له بصماته الواضحة، حتى أن وفاته شكلت صدمة مؤلمة لمستشار النمسا حيث رثاه قائلا: إن موت (كاستلري) مصيبة كبرى وهو لا يعوض، وخصوصاً بالنسبة إليّ، والرجل الذكي يمكنه أن يستكمل كل النواقص إلا نقص التجربة)، إذ يصف نفسه بالذكاء و(كاستلري) بالمجرب.

و(كيسنجر) الذي استثمر هذا التاريخ ووظفه في مساره السياسي وبخاصة في رحلاته المكوكية لغرض سلام مجحف لصالح الصهيونية العالمية قد لا يكون مُسلِّما بأن الماضي يعيد نفسه، ولكن تشابه الأسباب والملابسات أوحت إليه ببعض الرؤى التي أعاد صياغتها وعصرنتها لتكون مشروعاً تآمُرياً فتت به الوحدة العربية، وصهيونيته تجلت بكل بشاعتها حين رأس اللجنة المتقصية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، لقد أعطت توصياتها الهوجاء التي جرفت السياسة الأمريكية في أتون الفتن العمياء.

وإن كان ثمة ما يحسب له فهو توصله إلى وقف اطلاق النار في أعقاب التفاوض مع الفيتناميين الشماليين، وبهذا الإنجاز الإنساني منح جائزة نوبل للسلام، على أن جنوحه للسلام ليس خليقة ولكنه (تكتيك) إذ هو المتورط في التخطيط للانقلاب على الرئيس التشيلي.

لقد كان ذكياً في دراسته لتلك الفترة الحساسة في أوروبا، والنتائج التي توصل إليها والأعماق التي غاص بها جعلت هذه الرسالة أشبه بالمرجعية لأي صانع سلام، لقد كانت له كلمات جامعة هي نتيجة تدبر الأوضاع كقوله: (لما عاد السلام إلى أوروبا التي تعودت على النزاع الدائم استقبلته النفوس بكل تأكيد براحة ولكن بخيبة أمل، إن الشيء الوحيد الذي يساعد على تحمل الآلام التي سببتها سلسلة من الحروب الثورية هو الأمل العميق الجذور بعالم متحرر من مشاكله.

إلى أن يقول: عُرِّف السلام بأنه توقف الحرب، والنظام بأنه النتيجة البدهية للتوازن، والوفاق بأنه التعبير اللازم عن غريزة حب البقاء، وكقوله: (عندما تهدف سياسة رجل الدولة إلى تأمين المكاسب الدنيئة فإنه مضطر إلى أن يجد في التأجيل بديلاً وعوضاً عن العمل).

لقد جاءت دراسته التي تعالج أوضاعاً أوروبية سالفة وكأنها ترسم الخطوط العريضة لقضايا الشرق الأوسط، وإذ جعل درب السلام الذي سلكه (ميترنيخ) صعباً، فإنه قد خاضه لحساب الصهيونية العالمية واستطاع أن يفكك العالم العربي ويوهن عزائمهم والحق أنه لن يكون درب السلام الحاضر صعباً لو أن دول التجبر والتكبر والاستبداد نظرت إلى المشهد العربي بعين الواقع والصدق والعدل، فاليهود من مختلف آفاق العالم ومن مختلف الألوان واللغات يهاجرون إلى فلسطين ليجدوا المزارع والمصانع والمساكن والتعليم وسائر الخدمات فيما يُضيَّق الخناق على الفلسطيني في مزرعته وبيته وسوقه يُقَتَّلون ويسجنون وتصادر ممتلكاتهم ثم يُضطرون إلى الهجرة إلى دول لا ترحب بهم ولا تمنحهم أدنى حق من المواطنة، وإذا قيل في توصيات التسوية عن عودة اللاجئين ضجت كل المحافل التي يفترض فيها إقامة العدل وكف الأذى، وكيف يستقيم الأمر والعالم الذي لا يملك يمنح والمحتل الذي لا يستحق يأخذ، وكل رئيس يدخل البيت الأبيض يخدر العالم العربي المغلوب على أمره باختيار موفد إلى الشرق الأوسط لتقصي الحقائق، وكأن القضية بكر غامضة، وهل من قضية واضحة وضوح الشمس كالقضية الفلسطينية.

لقد خرجت بريطانيا من فلسطين وفيها مسلمون ويهود يقتسمون الأرض ويعرف كل أناس مشربهم، ولو كانت تريد العدل والإنصاف، لسلمت الأرض لأهلها الأصليين من يهود ومسلمين ودعمت العدالة وحالت دون الهجرة والتدخل وفي لبنان مسيحيون ومسلمون ودروز وطوائف مارسوا العيش الكريم وحكمهم دستور وزع السلطات والجاليات اليهودية في مصر والمغرب واليمن وفي أنحاء كثيرة من العالم، وكل أقلية يحميها الدستور والقانون، فهلا يقرر العالم تمليك الأرض لأهلها الاصليين يقتسمونها فيما بينهم ويضعون الأنظمة التي يحتكمون إليها، ومثلما تودع الدول وثائق الصلح والحدود في الهيئات والمؤسسات العالمية تودع الأقليات المشتركة في الأرض وثائقها التي تحكمها ثم تمارس العيش الكريم تحت سيادة القانون، إن السلام العربي الإسلائيلي ممكن لو أتيحت الفرص المتكافئة بين الفرقاء.

إن تعنت الصهيونية ومساندة الغرب لها هما شر البلية وكيف يطارد من يُسمون بمجرمي الحروب، وقادة إسرائيل يمارسون أبشع الجرائم ويستخدمون أفتك الأسلحة على مسمع ومرأى من العالم ثم لا يطلب منهم إلا ايقاف القتل والتدمير بالترسانة العسكرية الممنوحة لهم بأبخس الأثمان والمسنودة بالتأدييد والتمكين.

إن قراءة كتاب (محاكمة هنري كيسنجر) كافية للتدليل على جرائم العنصر اليهودي واستحالة التعامل معه على قدم المساواة.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد