Al Jazirah NewsPaper Friday  23/01/2009 G Issue 13266
الجمعة 26 محرم 1430   العدد  13266

نوازع
المواهب الفذة
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

هناك من حباه الله موهبة فذة في شأن من شؤون الدنيا فيبرز فيها، ويبز أقرانه ببون شاسع يصعب على غيره اللحاق فيه، خلال عصره أو العصور اللواحق، والمواهب الفذة يمكن أن تكون عملية، وهي غاية المنى، أو سياسية، أو اقتصادية، أو رياضية، والأدب إحداها للترويح عن النفس وصياغة الحكم في حلي جميلة يحسن منظرها، ويطيب ملمسها، لكنها لا تسمن ولا تغني من جوع، وما دام أن الأمر كذلك فنورد ندرا مما أشارت المراجع إليه بالبنان في هذا الميدان.

فقد حكي أن الوزير أبا الوليد ابن زيدون توفيت ابنته، وبعد الفراغ من دفنها وقف للناس عند منصرفهم من الجنازة ليتشكر لهم، فقيل: إنه ما أعاد في ذلك الوقت عبارة قالها لأحد، قال الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة، والقدرة على التفنن في أساليب الكلام، وهو أمر صعب إلى الغاية، وأرى أنه أشق مما يحكى عن واصل بن عطاء أنه ما سمعت منه كلمة فيها راء، لأنه كان يلثغ بحرف الراء لثغة قبيحة، والسبب في تهوين هذا الأمر وعدم تهويله أن واصل بن عطاء كان يعدل إلى ما يرادف تلك الكلمة مما ليس فيه راء، وهذا كثير في كلام العرب، فإذا أراد العدول عن لفظ فرس قال جواد أو ساع أو صافن، أو العدول عن رمح قال قناة أو صعدة أو يزني أو غير ذلك، أو العدول عن لفظ صارم قال حسام أو لهذم أو غير ذلك، وأما ابن زيدون فأقول في حقه إنه أقل ما كان في تلك الجنازة، وهو وزير، ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يتشكر له، ويضطر إلى ذلك، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر، وهذا كثير إلى الغاية، لا سيما من محزون فقد قطعة من كبده:

ولكنه صوب العقول إذا انبرت

سحائب منه أعقبت بسحائب

وقد استعمل الحريري هذا في مقاماته عندما يذكر طلوع الفجر، وهو من القدرة على الكلام، وأرى الخطيب ابن نباتة ممن لا يلحق في هذا الباب، فإنه أملي مجلدة معناها من أولها إلى آخرها: (يا أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه راجعون)، وهذا أمر بارع معجز، والناس يذهلون عن هذه القدرة لديه، وقال في الوافي، بعد ذكره جملة من أحوال ابن زيدون، ما نصه: وقال بعض الأدباء: من لبس البياض، وتختم بالعقيق، وقرأ لأبي عمرو، وتفقه للشافعي، وروى شعر ابن زيدون، فقد استكمل الظرف، وكان يسمى بحتري المغرب لحسن ديباجة نظمه وسهولة معانيه، وطالما أننا لسنا من أولئك الأفذاذ فيمكنا الاستمتاع بنوادرهم، وسماع أخبارهم، آملين أن يكون للأجيال القادمة قسط من العلم يعوض هذه الأمة جزءا من كرامتها وقدرتها على تسيير الأحداث في عصر تجاوز عصر ابن زيدون ورجاء، والحريري، وعطاء إلى مخترعات تبني وتهدم، وتقوي وتضعف، وتبري وتمرض، ويعلم الله أننا إلى العلم والعلماء محتاجون ولكن ما فائدة المعول دون أرض.

أما أنا فمن الأجدى الاستمتاع بأقوال الشعراء فأنقل ما قالوا:

لها ردف تعلق في قضيب

وذلك الردف لي ولها ظلوم

يعذبني إذا فكرت فيه

ويثقلها إذا رامت تقوم

وإثقال الردف لها يمكن علاجه بما وسع الله به على الناس في الطب الحديث من خلال شفط الدهون، أما التعذيب عند التفكير فهو ما لا علاج له، فلعل من العلماء ما يضع الله على يديه الشفاء، فنكتفي بعلم ما يحقق شهواتنا، وننسى ما نرد به أعداءنا.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد