وإذا اعتبرنا النخبة الأدبية في إيران وجهاً أعمق للإعلام الإيراني باعتبار الأدب والإعلام يعكسان وجهة نظر المجتمع وثقافته فإن هناك حالة من شبه إجماع على تبني النزعة القومية الشعوبية الفارسية المقرونة بالنظرة السلبية الدونية للعرب عموماً تسود الكثير من الأوساط الإيرانية المثقفة الذين يعتبرون نواة الإعلام الإيراني وأهم روافد تغذيته ونشاطه..
ففي كتاب بعنوان: (صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث) من تأليف الأمريكية (جويا بلندل سعد) صدر باللغة الإنجليزية وترجم للعربية، اختصرت الكاتبة الأمريكية فيه موقف النخبة الأدبية من العرب ولا سيما دول الخليج!! وهو أول كتاب يتطرق إلى صورة العرب في الأدب الفارسي، ولخصت ذلك من كتب ومؤلفات مجموعة من كبار الأدباء والأديبات الإيرانيين.
وفي النسخة المترجمة إلى اللغة الفارسية يختصر الناشر الإيراني: مضمون الكتاب موظفاً إياه في مقدمة توجه بها إلى النخبة الأدبية الفارسية باللوم على الموقف المشين من العرب والغارق في القومية والشعوبية قائلاً: (هذا الكتاب يوضح لنا مدى ارتباك مثقفينا في تبيين هويتنا القومية ويبحث عن فجاجة معاداة العرب المنتشرة والتي أصابت تقريباً كل الأدب الإيراني المعاصر بالاعتلال ونخرته حتى مستوياته العالية). ويفسر أسباب هذا العداء للعرب وبدايته بقوله: (عندما نعود إلى باعث هذا العداء اللامعقول ضد السكان الأصليين من عربنا (عرب الأهواز) وكذلك ضد الشعوب العربية المجاورة التي تشاركنا في الدين، وهو عهد الشاه رضا البهلوي، يتضح لنا أن جميع أهل القلم تقريباً يتفقون ويتناغمون، على الأقل في موضوع معاداة العرب، مع رغبات الشاه رضا البهلوي). وفي الكتاب يصور العرب على أنهم رعاع همج آكلوا السحالي والجراد قاطعوا الرؤوس بدو يسبون النساء.. متعطشون للدماء.. موبوؤون.. قذرون إلى غير ذلك من الأوصاف التي تعكس التطرف القومي الشعوبي!!، هذه النظرة الشعوبية التي تجمع بعض أدباء الفرس على صعيد واحد تعضدها مواقف سياسية للدولة من عرب إيران في الداخل كما نجدها أيضاً نمطاً ثابتاً في الإعلام الإيراني عموما يعكس -كما أسلفت- عمق المشروع الإيراني القائم على الشعوبية والتمذهب والذي عبرت عنه وكالة (مهر) الإيرانية شبه الرسمية بوضوح حين نقلت عن منوشهر محمدي، مساعد وزير الخارجية الإيراني لشؤون الأبحاث، قوله: (الشرق الأوسط سيبقى مركزاً للتطورات والأزمات طالما ظلت الأنظمة الملكية في الخليج قائمة، وإن النزاعات لن تحل إلا بزوال تلك الأنظمة التقليدية).
وإذا فتح ملف الجزر الإيرانية الثلاث: طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى يراها الإعلام الإيراني امتداداً للتراب الإيراني ويتعاطى مع هذه القضية بكل حزم وعلى إثر كل بيان يصدره مجلس التعاون الخليجي بخصوص تأكيد الحق الإماراتي المطلق في هذه الجزر يعقب الإعلام الإيراني المكتوب والمرئي والمسموع على ذلك بالاستنكار والشجب بل ويكشف عن عمق الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة بتسريب تصريحات لممثلي النظام الإيراني عن التشكيك في شرعية الأنظمة الخليجية كلها، كما حدث من حسين شريعت مداري المدير العام لصحيفة كيهان ومستشار مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، والذي صرح في صحيفة كيهان ما ادعاه أنه حق إيران التاريخي المدعوم بالوثائق في جزر أبو موسي وطنب الصغرى والكبرى وشبه جزيرة البحرين.
ولم يكتف بالتعرض للجزر الثلاث ودولة البحرين بل تعدى ذلك إلى التلميح بأطماع إيران في الخليج كله فتهجم على مجلس التعاون الخليجي معتبراً أن عمر أي دولة فيه لا يصل إلى مئة عام.
ومسألة الجزر الإماراتية لا تقبل بخصوصها إيران أي حوار سياسي على أي صعيد رسمي محلي أو إقليمي أو دولي فهي ترى تلك الجزر أراضي إيرانية إلى الأبد وهذه المسألة تشغل مساحة مهمة في الإعلام الإيراني وتكون في العادة فرصة لورود تصريحات وتلميحات تستهدف الخليج برمته إذا ما تم طرح مسألة الجزر الإماراتية على طاولة النقاش في اجتماعات مجلس التعاون الخليجي.
وغير بعيد من هذا ملف البحرين إذ يتردد في الإعلام الإيراني كلام غريب عن ادعاءات مفادها أن البحرين هي من ضمن التراب الإيراني وآخر تصريح إعلامي خطير صدر قبل سنة تقريباً على لسان الإعلامي المثير للجدل حسين شريعت مداري نشر في صحيفة (كيهان) يقول فيه: (إن للبحرين حساباً منفصلاً عن دول مجلس التعاون في الخليج، لأنها جزء من الأراضي الإيرانية, وأن المطلب الأساسي للشعب البحريني حالياً، هو إعادة هذه المحافظة إلى الوطن الأم)، هذه المواقف طبعاً لا يمكن اعتبارها مواقف رسمية للنظام الإيراني ولكن إذا ما تم ربطها بتصريحات قديمة للنظام في مراحله الأولى وزدنا على ذلك موقع الرجل الذي يتم من خلاله تسريب هذه المواقف والصحيفة أيضاً ووضعنا سياق الأحداث في الاعتبار فسنجد الموقف يستدعي توضيحاً من الإدارة الإيرانية العليا لبيان موقفها من الحدث وهو ما لا يحدث في العادة.
يضاف إلى ما سبق سخط إيران من سياسة دول الخليج في موضوع النفط ولأن إيران تعتمد في اقتصادها على الموارد النفطية فهي تقع ضمن تأثيرات سوق النفط تبعاً لمتغيرات الأسعار والإنتاج وما يرتبط بذلك من تقلبات وما يهم في هذا الجانب هو الشكاوى الإيرانية المتكررة في الإعلام من نهج دول الخليج لسياسة رفع الإنتاج لتخفيض سعر البترول!! وهو ما يلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد الإيراني إذ تفتقر إلى البنية التحتية البترولية التي تمكنها من المنافسة في هذا المجال ما يجعلها تلقي باللائمة على دول أوبك لا سيما الخليجية منها فيكون لهذا الموضوع تأثير ملموس على الخطاب الإعلامي الإيراني اتجاه سياسات الخليج.
وهناك صراع النفوذ الخارجي وهذا الصراع يشمل حالياً ثلاث مناطق رئيسة هي العراق ولبنان وفلسطين وبدأت إرهاصاته تظهر على هامش الساحة الأفغانية وكلنا يدرك مدى التغلغل الإيراني في كل من لبنان والعراق ومدى حرصها على جذب المقاومة الفلسطينية وفك علاقاتها بدول الخليج.
وفي الجملة هناك طابع عام تتسم به السياسة الإيرانية وينعكس كلياً على إعلامها الرسمي تجاه الخليج وغيره، فالمراقبون يجدون لإيران مواقف سياسية متعددة من القضية الواحدة وتبعاً لذلك يكتسي الإعلام نفسه تعددية متباينة في تناوله للقضية نفسها.. ولا أدري كيف يستوعب الإعلام الإيراني تناقضات صارخة في المواقف السياسية للقادة من حروب أمريكا في المنطقة ومن إسرائيل فتارة تعلن القيادة الإيرانية أنه يجب مسح إسرائيل من الأرض وتارة تبدي استعدادها للاعتراف بإسرائيل وفي الوقت الذي تعتبر فيه أمريكا الشيطان الأكبر وتلوم الخليج على عقد تحالفات أمنية معه ينخرط النظام الإيراني بكل ثقله في أكبر مشروع استعماري أمريكي في التاريخ ويزور رئيسه العراق تحت حماية أمريكية، بل ويعلن عن مكتب رعاية مصالح أمريكا في طهران ويخاطب الشعب الأمريكي من خلال التلفاز، ولست أدري أيضاً كيف يتعاطى هذا الإعلام مع دوره كمبشر بمشروع شيعي ينقذ الأمة من الشيطان الأكبر ومعاونيه في الخليج كما يزعم وفي الوقت نفسه يتغاضى كلياً عن واقع حال إيران في موضوع احتلال العراق وأفغانستان وقهر سنّة الأحواز وإيران عموماً، بل لست أدري كيف يستطيع توجيه امتنان الساسة الإيرانيين على أمريكا بكونهم مكنوها من احتلال بلدين إسلاميين!!! أضف إلى ذلك كيف يصور المشروع الإيراني على أنه محرر البشرية من القهر الذي في الخليج والدول العربية بينما نجد خط الفقر قد تجاوز حدوده إلى درجة تنذر بتفاقم الأوضاع عاكساً القهر في أوضح صورة برغم أن إيران دولة بترولية بامتياز.
إن أحد التفسيرات التي يقرؤها المحللون في سياق هذه التناقضات السياسية للنظام الإيراني أن سياسته الكلية وإستراتيجيته محشوة بخليط من الأوهام الغيبية الاثني عشرية التي تؤثر سلباً على تعاطيهم مع الحقائق على الأرض ومعطيات الواقع وهو ما يحدث حالة من الارتباك والتردد والتناقض على صعيد المواقف والتصرفات.
***