Al Jazirah NewsPaper Monday  19/01/2009 G Issue 13262
الأثنين 22 محرم 1430   العدد  13262

مذبحة غزة وأمريكا الصديقة
د.عبدالله الصالح العثيمين

 

أكتب هذه المقالة ليلة الجمعة بعد أن علمت باستشهاد قائد آخر من قادة حماس المقاومة، تغمده الله برحمته. وأنا أعلم أن المقاومين الأبطال منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. وكل واحد منهم يردد قول الشاعر القديم:

ولست أبالي حين أقتل مسلماً

على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي

وقد لا تنشر المقالة إلا ومذبحة العدوان الإجرامي الصهيوني على غزة قد توقفت. وأشعر وأنا أسطر هذه الكلمات أني كأمثالي من عامة أمتنا لا أملك إلا رفع كف الضراعة إلى الله - جلت قدرته - أن يجبر مصاب هذه الأمة فيما هو حال بها من أرزاء متعددة الوجوه تدمى لها قلوب المؤمنين، ويندى لها من كل حرٍ جبين، وأن يتقبل شهداء غزة الأبطال وشهداءها من أبرياء الشيوخ والنساء والأطفال، وينصر أولئك الذين ما زالوا صامدين أمام جبروت غطرسة المتكبرين، وأولئك الأبرياء الذين ما زالوا يتعرضون لأشكال مرعبة من الخوف والموت، وأن يزيل الغشاوة عن عيون من في أيديهم أن يفعلوا شيئاً ولم يفعلوه، ليكفروا عن كل ذنب بحق أمتهم اقترفوه.

أما بعد..

ففي بداية الحديث في هذه المقالة لا بد من الإشارة باختصار إلى أمور منها:

1- أني مؤمن كل الإيمان بما قاله الله - سبحانه - في كتابه العزيز: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}. فمهما أبدى أصحاب النوايا الطيبة المقدرة من مواقف تدل على عظمة تسامحهم فإن التاريخ والواقع الحاضر يبرهنان على أن الغالبية العظمى، وبخاصة من هم متنفذون في أوطانهم، لا تقدر تلك النوايا. وارتكاب قادة الكيان الصهيوني جريمة اجتياح مدن الضفة الغربية ثاني يوم من صدور المبادرة العربية في بيروت أكبر دليل على مقت أولئك القادة للسلام، واحتقارهم لمن أصدروا تلك المبادرة. ومواقف زعماء المتصهينين في أمريكا والمنافقين في أوروبا تجاه المذبحة في غزة أوضح برهان على كرههم للعرب والمسلمين كراهية انتماء ودين.

نعم. هناك يهود ونصارى محبون للعدل والإنصاف. وقد عبروا - قبل ارتكاب الصهاينة لمذبحة غزة وفي أثنائها - عن مواقف عادلة منصفة يقدرها ويجلها كل محب للسلام بين البشر. لكن لم يثبت التاريخ ولا الواقع حتى الآن تأثيراً بالغاً لهم على سير الأحداث بحيث يوقف مرتكبي جرائم ضد الإنسانية عند حدّهم.

2- أن كل مخلص من أمتنا، عرباً ومسلمين غير عرب، يحمد الله ويسّره على أن يقدم خالص الشكر والتقدير لتركيا، حكومة وشعباً، على موقفها النبيل، الذي أعادت إلى هذه الأمة عبقاً من مجدها الأثيل. تركيا بموقفها المتدفق إنسانية، المتوهج عاطفة إسلامية برهنت على أن جذوة العقيدة لا تحد أوارها حدود. ولئن لاح تاجها مكللاً بالغار فإن هناك من رضوا أن يرتدوا ملومين ثياب العار.

3- والشكر الجزيل لكل من مدوا يد العون والمؤازرة لأهل غزة، المعتدى عليهم، وتعاطفوا معهم بأي أسلوب كان، طبياً ومالياً وكلمة صادقة. وإذا كان ذلك غير مستغرب من عربي أو مسلم، بل هو واجب، فإن هناك من هم ليسوا عرباً ولا مسلمين. ومن هؤلاء أطباء من النرويج بالذات. ومنهم قادة وشعوب في أمريكا الجنوبية، بل ومنهم يهود ليسوا خارج الكيان الصهيوني فحسب، وإنما داخل هذا الكيان أيضاً. وهذا واضح في موقف من يحصون الآن جرائم قادتهم للمطالبة بمحاكمتهم على أنهم مجرمو حرب.

4- من تأمل موقف رجل الدين المسيحي عطا الله حنا، وأمثاله من مذبحة غزة وقارنه بموقف بعض أصحاب العمائم من المسلمين من تلك المذبحة لا يملك إلا أن يرى كيف فقد الحياء عند هؤلاء المعمّمين. وإذا كان هذا الموقف المجاني للحياء موجوداً لدى من كانوا يؤمل فيهم خير بحكم مكانتهم الدينية فهل يستغرب أن يجد المرء أناساً من هذه الجزيرة العربية مهد العرب ومهبط الوحي - والمذبحة في غزة متواصلة - يبدون بهجتهم بعرض لوحاتهم التشكيلية، وأين؟ في السفارة الأمريكية؟

وماذا عن الصديقة العزيزة أمريكا؟

كل من قرأ تاريخ الدولة الأمريكية - عادُ هذا الزمان - قراءة صحيحة يجد أن الذين أسسوها كانوا أوروبيين عنصريين في طليعتهم الأنجلو ساكسون، وأنهم ارتكبوا أبشع الجرائم بحق سكان قارة أمريكا الشمالية الأصليين، ويجد أيضاً أن طبيعتهم العنصرية الإجرامية المتغلغلة في نفوس أكثر قادتهم كانت مشفوعة بعقيدة متصهينة أصبحت لها نتائج بعيدة المدى، وبخاصة بالنسبة لقضايا أمتنا وفي طليعتها قضية فلسطين.

في عام 1818م، أي قبل إعلان وعد بلفور المشؤوم الظالم بمائة عام تقريباً نادى رئيس أمريكا جون آدمز بإنشاء دولة يهودية في فلسطين. وبعد شهور فقط من إعلان ذلك الوعد كان الرئيس الأمريكي ولسون أول زعيم غربي يؤيده رغم أن هذا الموقف يتنافى مع المبادئ التي نادى بها هو نفسه، مثل حرية تقرير المصير، وحقوق الإنسان. وكان الرئيس ترومان هو الذي أجبر بريطانيا الحاكمة بأمرها في فلسطين حينذاك بأن تسمح بدخول مائة ألف يهودي إلى هذا القطر العربي المسلم دفعة واحدة. وكانت إدارة أمريكا المتصهينة هي التي جعلت دولاً تصوت خوفاً أو طمعاً بقول الدولة الصهيونية عضواً في الأمم المتحدة، كما كانت أول من اعترف بشرعية احتلالها لما احتلته من تلك البلاد.

وكان الريس كيندي - رغم أنه كان من أقل رؤساء أمريكا سوءاً بالنسبة لقضايا أمتنا، وأنه حتى الآن لم يكشف جلياً عمن كان وراء اغتياله - هو الذي تعهد بالدفاع عن الكيان الصهيوني مع العلم أن هذا الكيان لم يحدد له حدوداً. ومعنى هذا التعهد ومقتضاه أن أمريكا ستدافع عن كل أرض يحتلها الصهاينة. أما الرئيس بوش الأب فخدمات إدارته لهؤلاء الصهاينة لم تقم بمثلها أي إدارة أمريكية سابقة كما قال وزير خارجيته بيكر، في مذكراته. وفي طليعة تلك الخدمات القضاء على قوة العراق، التي كانت - كما ذكر ذلك الوزير صادقاً - الخطر الاستراتيجي الحقيقي على إسرائيل، وجمع زعماء العرب معها في مدريد، وهو أمر ظلت - كما ذكر صادقاً أيضاً - أربعين عاماً تحلم به. ويقول كاتب هذه السطور: وهو الأمر الذي بات زعماء العرب - بقدرة قادر - يلهثون وراء سرابه.

أما إدارة بوش الابن فقد برهنت على صداقتها لأمتنا برهنة واضحة جلية في أفغانستان والعراق، إذ أغدقت على هذين البلدين كل ما تملكه من وجوه المودة والتعمير. ومن ملامح هذه الوجوه الجود بضرب المدنيين بالقنابل الفتاكة لتقلل أعدادهم فلا تحدث أزمة زيادة فيهم، وإتاحة الفرصة لازدهار إنتاج المخدرات، الذي تضاعف في ظل هيمنتها على أفغانستان أضعافاً مضاعفة. وما حدث في أبو غريب والفلوجة مثلان من أمثلة كثيرة تحتم علينا أن نوثق عرى الصداقة بالعم سام. فإن عتبت الإدارة المتصهينة علينا بقلة ما أبديناه لها من عواطف المودة وغيرها فلها العتبى حتى ترضى. ومن حسن الحظ أنها لن تغادر البيت الأبيض ببنائه، الأسود بجرائم من احتلوا كراسيه، إلا وقد رضيت عن أكثرنا على الأقل.

في مذبحة غزة، التي ارتكب فيها قادة الصهاينة كل أنواع جرائم الحرب البشعة، ظهرت الأدلة الواضحة على المستوى الذي هبطت إليه القيادات العربية تجاه ما ارتكب، وبدت البغضاء من أفواه منافقي الغرب وما تخفي صدورهم أكبر.

أما أمريكا، التي لا يذكر إعلام كثير من دولنا اسمها إلا وصفها بالصديقة، فلم تجد إدارتها المبجلة إلا أن تبرهن على صداقتها لنا بشحن الأسلحة المتطورة جداً إلى الصهاينة لتشد من أزرهم وتعوضهم عما يفقدونه من أسلحة سبق أن أمدتهم بها. وما دام هذا هو موقف الإدارة المتصهينة، صديقة بعض العرب الحميمة، فإنه لم يكن غريباً أن شكل الكونجرس الأمريكي لجنة على جناح السرعة كي تزاد المعونات إلى أولئك الصهاينة.

أجد نفسي، في نهاية هذه المقالة، أن أختتمها بأبيات من قصيدة كتبتها عام 1421هـ (2000م) بعنوان: (صدى لبيان القمة). وهذه الأبيات تعليق على ذلك البيان.

أتى بيان الغيارى مثلما رغبوا

فلتسعد الحال وليهنأ به العرب

أتى كما ألفت آذان أمتنا

سماعه من كلام كله عجب

إدانة للطغاة المجرمين على

ما نفّذوا من عظيم الجور وارتكبوا

ومستطاب أقاويل مزخرفة

لولا الحياء لقلنا إنها كذب

أفي الإدانة ما يجلو أسى مهج

أطفالها تحت نار القصف تنتحب؟

وهل يزيل سدول الذل غير شبا

مهنّد في يمين العزم يلتهب؟

يا قادة العُرب هلاّ استيقظت همم

منكم توالت على أغفائها حقب؟

ماذا يفيد لهاث خلف ما رسمت

من زائف السلم رأس الغدر والذنب؟

وهل تظنون من يبدي نصائحه

عدلاً يحقق في الشكوى كما يجب؟

صنوان قادة أمريكا - وإن جحدوا -

وطغمة لبني صهيون تنتسب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد