تطمئن عن صحة أمها وهي بين أيدي الأطباء، ولم يكن لها من حيلة لترافقها، فزغب القطا الذين يتشبثون بأطراف ثوبها لم يمنحوها فرصة أن تغادرهم إليها.. لكنها لم تسمع إجابة وهي تزجي اللهفة، أعادت السؤال بفزع: أنت بخير أمي؟ لا تقلقيني..، غير أن أمها أطلقت آهة طويلة وعميقة وهي تقول: بنيتي، وما يعني شفائي وجودة صحتي؟ ما يعني توفر الدواء وهذا الطاقم الطبي يقف على راحتي وهناك من يفقدون ليس الكبد الذي أعاني بل كل جزيئة فيهم..، وماذا يعني أن تفرحي حين أقول لك بأنني سأعود بكمية من النصائح أولها ما علي أن آكل وما يجب أن أحتسي وأشرب..، وكيف علي أن أهجع للراحة وأمتثل للفرح..؟ أي فرح أمام الحزن الأكبر الذي يعمنا..؟ أنا واحدة في بسطة أرض تقل أجساداً كانت صحيحة ضاحكة تتحرك اغتالها قتل من نوع
ما عهدته ذاكرة بشر..، اجتثت فرحها فكيف أفرح وأنا منعمة وهم أشلاء لم يعد للحياة فيها إلا أرواح شهدت لها الأرض التي رطبتها دماؤها من حرقة النار..؟ أخجل بُنيتي أن أقول لك إنني بخير في حضور جرحهم العميق..،
أخجل أن أسمع صوت فرحتك بعودتي وهم لن يعودوا أبداً..لا صحة البتة وهم جرحى وميتون... لا فرحة البتة وهم يتصايحون..، لا شكلا من أشكال المتع وهم يتضورون تائهون في شوارع عمها الخراب وأنقاض صنعها الاعتداء ودماء انبجست من عروق مزقها الظلم... أي قيمة لإنسانيتنا في تيه إنسانيتهم وتعثر راحتهم واستلاب أنفاسهم..؟ أخجل بنيتي أن أعلن شفائي وهم لا يجدون أعضاءهم المبتورة أو أعينهم المفقوءة أو أهلهم الذاهبين بلا درب عودة...، أخجل أن أشعر بطعم الدواء في فمي وأحس بوقيد العافية في عظامي وهم مكسورون عطاشى جائعون فاقدون وحيدون عزلا..، أخجل أن أطلب منك أن تعدي لي فراشي لأنام في استرخاء بعد عناء في المصحة.. وهم لا أسرة لهم ولا لحاف..،.. حتى الحزن ليس من حقنا أن نفعله فهناك ما هو أولى أن نتخذه سبيلاً للتطهير... قالت ابنتها بعد صمت: أفهمك أماه... ثم أغلقت المهاتفة بينهما.. وهي تفكر في أي السبل يمكن أن يتطهر إنسان من أردية وهمية لا يمكنها أن تغطي فيه أمراضه المستديمة... بما فيها الحزن الجليل..؟.. لكنها يبدو سقطت في بحيرة من الأفكار..، وثمة دعاء تردده: اللهم انصرنا على ضعفنا واغفر لنا جهلنا وعجزنا..، اللهم لا تكلنا لأنفسنا ولا للدنيا وغرورها ولا للشيطان وحيله طرفة عين..، اللهم ابدل حزنهم فرحاً ودمارهم عماراً وكربهم فرجاً وتفرقهم شملاً موحداً وكلمتهم على ما يرضيك ويبرئهم.. اللهم احقن دماءهم وتقبل شهداءهم.. اللهم كن لهم الحافظ الأمين وأخرجهم من هذا البلاء منتصرين، اللهم دمر أعداءهم وضاعف عليهم عقابك وعذابك عاجلاً غير آجل. اللهم آمين.