الطقس البارد يعتمر قبعته ويمرّر أنامله الحادة فوق مدينة الرياض.. أجلس أنا ووالدتي أمام الموقد المشتعل نتابع في صمت وقنوط قناة العربية وننقل منها إلى الإخبارية فالجزيرة، ومنها للببي سي لنعود للعربية.. المشاهد الموجعة لا تتوقف والاطفال الذين يملؤون الشاشة بجراحهم النازفة وبدمائهم التي اختلطت بالتراب والدمار وبقايا قطع الملابس الملوثة.. إنّها مشاعر الملايين من العرب والمسلمين الذين يقفون في حيرة وقلّة حيلة ويلهجون بالدعاء بأن ينصر الله أهالي غزة
في وجه هذا الوحش الكاسر، الذي لا يبدو أنه يستمع إلى أي شيء سوى آلة الحرب الجهنمية، والتحليلات تتوالى وهي كافة تجمع على حقائق بتنا جميعاً نعرفها: العنف الإسرائيلي متكئ على الدعم الأمريكي المستمر والعلني وبمباركة أوروبية، تمكّنت وزيرة الخارجية الإسرائيلية ليفني من تحييدها لصالح الاعتداء على غزة خلال جولتها في بداية العدوان، باعتبار الدولة الإسرائيلية في خطر من (الألعاب النارية) التي تطلقها حماس على البلدات الإسرائيلية، ولتلك التي أطلقت من جنوب لبنان، بما يبرّر لإسرائيل حق الدفاع عن النفس حتى بهذه الوسائل المتطرّفة!!
ولماذا؟؟ لأنّ إسرائيل (وكما يرون) لم تجد وسيلة أخرى مناسبة يمكن أن توقف (عدوان) حماس كما تسمّيه وكما تستقبله العقلية الأوروبية والأمريكية، وهو الأمر الذي دفع بالكونجرس الأمريكي الأسبوع الماضي وبكامل أعضائه ما عدا أربعة، إلى إصدار قراره بدعم حق إسرائيل في الدفاع عن النفس بضرب غزة!!
لن أتعرّض هنا لنقاش كيف وصلنا إلى هنا وما الموقف من كل فريق فلسطيني، فالنتيجة أننا جميعاً خاسرون.. وأوّلنا هؤلاء الضعفاء الذين وجدوا أنفسهم أسرى لصراع مسلّح وأيدلوجي لا يعنيهم، وهم من مات منهم أكثر من ألف حتى الآن وجُرح أو اختفى أو أصيب لبقية عمره أكثر من أن نستطيع أن نحصي، وهنا أريد أن أطرح أسئلة قلقة وهامة للغاية في رأيي من قبيل: كيف نتحدث إلى العالم وهل نتكلم لغته العقلية والمعرفية والمنطقية حتى يتمكن من فهمنا، وهل نفهم الأسس التاريخية والفلسفية التي تقوم عليها نظرته وموقفه من إسرائيل.. والأكثر وجعاً هو لماذا لا تصل رسالتنا إلى العالم رغم كل الصراخ الذي نقوم به؟
من الواضح أننا ندور حول أنفسنا ونردد ما نريد أن نسمعه عن ظلم الصهاينة وعدوانهم الغاشم، وعن تعسّف القوى الأمريكية وعدم عدالتها، وهذا كله صحيح لكننا فقط من يردّد ذلك ومن يسمع ذلك، في حين يسيطر على الغرب عبر قنواته السياسية والإعلامية مناخ فكري يختلف كلياً في الرؤية وفي الطرح عن ما هو في الإعلام والصحافة العربية. المواطن الأمريكي الذي يؤثر في صنع القرار عبر ممثليه السياسيين، لا يري آلة الحرب الهمجية ولا كل هذه المآسي الإنسانية بشكل يومي، لكنه يعرف ويشاهد إذا ما سقط صاروخ عشوائي على سقف أحد الإسرائيليين فأثار فزعه أو أحدث ثقباً بسيطاً في جدار منزله، وهو يري الشعب الإسرائيلي المفجوع يركض في خوف إلى الملاجئ عندما تضرب صفارات الإنذار إيذاناً بقدوم بعض (صواريخ) حماس، وهو يتعاطف معهم أمام تصرفات همجية من منظمة يعتبرها (إرهابية)، وهذا هو تعريفها لديهم حتى لو لم نقر ذلك، فهكذا ينظرون للأمر وعلى أساسه يصنع القرار الغربي المؤثر. إنّ الرؤية للحدث هي كالآتي: إسرائيل كما يرون دولة تستحق أن تؤمّن حدودها وأحد وسائلها هو ضرب حماس والقضاء على كوادرها عبر ضرب غزة، ورغم أنّ هناك ثمن إنساني قد لا يقرّه الغرب (والمبني تاريخه على الإيمان بحقوق الإنسان)، لكن للحرب قوانينها كما يقدرون!
هذه هي الحقائق التي يتعاملون بها مع القضية الفلسطينية، وهذه هي الزاوية التي ينظرون من خلالها إلى ما يحدث في غزة. لن نصرخ بأنّ هذا ظلم وأنه عدوان على الحق وهو حقاً كذلك، فالحقيقة المرة أنّ القرارات المصيرية التي تعني القضية الفلسطينية لا تصنع داخل أروقتنا المتعاطفة، وإنما هي داخل هذه البيئة المعادية بكل عناصرها المضللة، وهي الحقيقة المرة التي علينا دراستها وتحليلها لفهم مفاتيح العقلية الغربية في النقاش والمنطق وفهم التاريخ، ثم بدء توضيح المواقف. إنّ كل هذه الانفعالات وكل هذا الصراخ وكل هذه الشتائم التي ينزلها قادة حماس بالغرب وإسرائيل لا تغير من الحقائق على الأرض شيئاً، فمن يتآكل فعلاً هو القضية ومن يخسر كل يوم أكثر وأكثر هم الفلسطينيون وليس حماس أو السلطة الفلسطينية ممثلة بفتح. هم أولئك الذين لا يمثلهم أي من قادة هذه المنظمات ولا يستلمون دعماً من أحد وهم يناضلون ليبقوا خارج اللعبة من أجل فلسطين، أو كما قالت إحدى الزميلات الفلسطينيات: أنا مني حماس ومني فتح أنا بس فلسطينية وبدي أبقى هيك!!
ما يحدث اليوم يرتبط بالطبع بالانتخابات الإسرائيلية التي ستطلق عجلتها في العاشر من فبراير القادم، وليفني وزيرة الخارجية وإيهود باراك بمحاولاتهم الحالية تعويض الفشل العسكري الذي منيت به إسرائيل في حربها مع حزب الله في لبنان عام 2006م يلقون قبولاً كبيراً داخل إسرائيل، وهو أمر يجب أن نأخذه في الحسبان عند تقييمنا لما يحدث، لكن الرعب الحقيقي الذي يجب أن تواجهه الولايات المتحدة بموقفها غير المتوازن مع العدوان الإسرائيلي، هو الدعم الحاسم والكبير الذي أصبحت تتمتع به منظمة مثل حماس، ليس فقط بين أوساط الفلسطينيين، بل في أوساط الشارع العربي كله، وهي المنظمة التي قام العدوان الحالي بزعم القضاء عليها!
التطرّف لا يخلق إلاّ تطرفاً. هذه هي القاعدة الذهبية للتاريخ، ومن هنا فإنّ تطرّف القوى الغربية وعدم توازن موقفها من القضية الفلسطينية ولد دعماً لتيار حماس داخل العالم العربي لم تحلم به حماس من قبل، فهل هذا ما كانت تريده الولايات المتحدة أو إسرائيل؟؟
من سيدفع ثمن ذلك؟ كلنا دون استثناء... منطقة الشرق الأوسط بشعوبها وحكوماتها وثرواتها القومية والبشرية، ستكون عرضة لتيارات متطرفة مؤدلجة كنا نعتقد أننا بدأنا في الاستيقاظ من سطوتها الفكرية والمعرفية، وها هي هذه الحرب الحمقاء بكل لا إنسانيتها تقدم خدمات مجانية لتمرير اضطرابات أكثر اتساعاً للمنطقة..
إذن هي مسؤوليتنا جميعاً أن نحاول الوصول إلى فهم عقلية صنّاع القرار في الغرب (الجائر)، وأن نفهم قوانين اللعبة السياسية والإعلامية والمالية، ونحاول المشاركة فيها إن تمكنا، حتى نستطيع إيضاح الحقائق على الأرض وإسماع وجهة النظر الفلسطينية والعربية وخلق بيئة متعاطفة داخلها. إنها أحد وسائلنا القليلة التي قد نملكها لو تدرّبنا عليها بالشكل الكافي للمحافظة على مستقبل هذه المنطقة من أوبئة التطرّف والاضطراب.
الحقيقة الموجعة التي يجب أن نكرّرها لأنفسنا أننا لسنا من يملك صنع القرار في عالم جائر لا يعترف إلا بميزان القوة.. من نريد أن نسمعهم وجهة النظر الفلسطينية ومن نريد أن يعرفوا ما يحدث فعلاً في داخل غزة هم الغرب بقواه الأمريكية والأوروبية ممن يصنعون القرار، لكن من الواضح أننا لا نمتلك مفاتيح فهم العقلية الغربية ولا سبل التعامل معها لتوضيح مواقفنا، ويكفي أن تستمع لكل هذه العنتريات المضحكة حول انتصار حماس من قادة حماس أنفسهم في القنوات العربية، رغم هذا الدمار العظيم الذي أحرق الأخضر واليابس في غزة لنسأل عن أي انتصار يتحدثون مقابل الثمن الإنساني الباهظ الذي يدفعه المواطن الفلسطيني الأعزل؟؟؟
أكدت حركة حماس رفضها للقرارات التي صدرت عن مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين، باعتبار فلسطين وطناً قومياً لليهود في عام 2008
لتسيبي ليفني بصفتها وزيرة الخارجية الإسرائيلية.