عندما نطالب بالتسامح، والبعد عن التشدد، وإتاحة الفرصة للإنسان المسلم أن يختار ما يراه الأقرب إلى الصواب في القضايا الخلافية، ولا يحمل (بالقوة) على رؤية معينة، طالما أن في الأمر سعة، فنحن لا نطالب إلا بالإسلام (الأصيل) الذي يبيح الاختلاف، ويحترم وجهات النظر الأخرى، كما عرفه السلف، وتعاملوا معه بكل رحابة صدر، حتى جاء (المتشددون) وحاولوا مصادرة الرأي الآخر, وشككوا في مشروعيته، وفرضوا الرأي الأوحد، (رأيهم هم)، الذي لا يرى إلا نفسه منبعاً للحقيقة. والغريب أن هؤلاء يطالبون و(بإصرار) أن (تصادر) كل الآراء الأخرى، وتلغي كل وجهات النظر المختلفة معهم، وتفرض وجهة نظرهم فرضاً على الجميع بقوة السلطة، بحجة أن ما يقولونه هو الإسلام، وما يقوله غيرهم ليس من الإسلام في شيء.
تعود إلى تراث الإسلام، فتجد (الاختلاف) في وجهات النظر، وتعدد المدارس الفقهية، في المسائل الاجتهادية أمر مشروع، وهو ما أقره الفقهاء الأعلام، واعتبروه (رحمة) ومن زاوية أخرى كان الاختلاف هو المعين الذي أعطى هذه الشريعة كل هذه المساحة من التعدد والاتساع والرحابة، و(مرونة) جعلتها قادرة على أن تكون صالحة لكل زمان ومكان. إلغاء التعدد في وجهات النظر، و(تسفيه) المدارس الفقهية الأخرى، هو تضييق على الناس، وتعصب مذموم، وفي الوقت ذاته خروج عن أقوال (جميع) فقهاء المذاهب دون استثناء، التي كانت (تنهى) عن حمل الناس على مذهب واحد.
يروى أن أبا جعفر المنصور فكر في أن يجمع الناس على (موطأ) مالك، فناشده الإمام مالك ألا يفعل؛ لأنه كان يدرك -وهو الفقيه العلم- أن في الاختلاف (سعة)، وتيسيراً على الناس، وثراء للشريعة، وكان الإمام أحمد بن حنبل يقول: (من أفتى الناس ليس ينبغي أن يحمل الناس على مذهبه ويشدد عليهم). وقال ابن قدامة المقدسي: (لا ينبغي لأحد أن ينكر على غيره العمل بمذهبه، فإنه لا إنكار على المجتهدات)، ويقول ابن تيمية في الفتاوى: (مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه).
ورغم كل هذه الأقوال الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، نجد بعض المتشددين اليوم، ممن يعيشون بيننا، يضربون بأقوال هؤلاء الفقهاء الأعلام عرض الحائط، ويحتكرون الحقيقة، و(يسفهون) كل من أخذ بوجهة نظر مختلفة مع اختياراتهم، ويطلقون ألسنتهم في (التشنيع) على من اتبع فقيهاً في مسألة (ما) يختلف فيها معهم. فتسأل: أي (سماحة)، وأي تيسير يتحدث عنه هؤلاء، وقد بلغوا من الضيق والتضييق والتشدد، وحمل الناس على آرائهم، مبلغاً يرفضه، ويأباه، أئمة كبار مثل مالك وأحمد وابن قدامة وابن تيمية رحمهم الله، قبل أن ياباه الإنسان العاقل بفطرته السليمة.
ولقارئي الكريم أن يقارن بين ما رفضه الإمام مالك -مثلاً- عندما أراد المنصور أن يحمل الناس على (الموطأ)، وما يمارسه متشددونا اليوم قولاً وعملاً، الذين يرون أن الإسلام وفهمه وتفسيره والاجتهاد فيه (حكر) على علماء محددين، إذا خرج عن اجتهاداتهم المسلم خرج عن الصواب، لتدرك أين وصل بنا التشدد والمتشددون.
ملحق على جنب
القارئ عبدالمجيد القاسم كتب مداخلة على ما أقول سطرها في رد له مطول في (عزيزتي الجزيرة) الثلاثاء الماضي، له ولأمثاله أقول: اقرأ ما كتبته هنا بتمعن، وستجد فيه رداً على ما تقول. إلى اللقاء.