أدرك تماما أن تزييف الحقائق عبر الفجور الإعلامي قد يجد طريقه عند بعض الجهلة والسذج، وذلك من خلال إلصاق الاتهامات بحركات المقاومة، وعن مدى صلتها بالإرهاب. مع أن العالم - وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية -
فشل حتى يومنا هذا في أن يضع تعريفا للإرهاب، كما أنه فشل في عدم التفريق بينه وبين حق تقرير المصير والدفاع عن النفس، وهو ما أكدته كافة الشرائع السماوية والنظم الأرضية.
وتظل المقاومة هي صاحبة الأولوية على ما سواها، خاصة إذا منحها الشعب ثقته على أساس هذا المبدأ. وهي حق مشروع لشعب وطنه يرزخ تحت الاحتلال، من أجل تحرير الوطن والإنسان. كل ذلك يندرج تحت سنن الابتلاء التي منها: سنة التدافع بين الحق والباطل فإن الله أراد لهذه الحياة الدنيا أن تكون مسرحا بين قوى الخير وقوى الشر.
إن التطورات التي شهدتها الساحة الفلسطينية - للأسبوع الثاني على التوالي - من خلال المجزرة الإسرائيلية البشعة، والاجتياح الغاشم على غزة، وما تقوم به إسرائيل من قتل للأبرياء وهدم للبيوت وحرق الحقول، وتصدي حركة المقاومة لهذا العدوان أوجد ثقة كبيرة لدى الشارع الفلسطيني نحو الحركة، رغم التكلفة الباهظة لهذا الموقف. بل إن كاتبا إسرائيليا يدعى (يوسي ساريد)، كتب في صحيفة (هارتز) متعاطفا مع الشعب الفلسطيني، قائلا: (إننا نحارب اليوم هؤلاء الذين يرى جزء كبير منا أننا لو كنا مكانهم لمدة 41 عاما لأصبحنا مثلهم).
يقولون: إن السياسة فن الممكن وأن الحرب في ظل اختلاف توازن القوى أمر غير مرغوب فيه. وما يحصل على أرض غزة إنما يجري بقدر الله وعلمه لحكمة لا يعلمها إلا هو - سبحانه -، إلا أننا نرى من خلال تلك الأحداث أفقا مضيئا عامرا بالأمل، محطما حاجز الخوف، وملغيا خرافة طالما عشعشت في عقول المنهزمين، أن هناك قوة أرضية لا يمكن أن تهزم. فنصر الله آت بسنة جارية يمحص فيها العباد ليبلوهم أيهم أحسن عملا.
يخطئ من يظن أن العدوان الإسرائيلي لم يبدأ إلا مع صواريخ حماس ولن ينتهي بها. بل هو تكتيك لمشروع كبير تريد إسرائيل تحقيقه في هذه المرحلة بالذات تمهيدا لإعادة ترتيب الأوضاع السياسية في عموم المنطقة، انسجاما مع مشروع الشرق الأوسط الكبير. خاصة حين استبقت تلك العمليات موعد تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب (باراك أوباما)، كما استبقت الانتخابات الإسرائيلية المقبلة من أجل تحقيق مكاسب سياسية على أرض الواقع.
الرسالة التي أردت إيصالها في هذا المقال هي الحذر من الانجرار خلف الضغوط التي تمارسها الدول الكبرى من أجل إخضاع الشعب الفلسطيني وقهره وإذلاله، وأنهم أصبحوا لقمة سائغة في أيدي أعدائهم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى نزع الثقة من المقاومة، وكسر إرادة قيادتها بالقوة العسكرية، وهو ما أكده - وزير الدفاع الإسرائيلي - (ايهود باراك)، قبل أيام: (من أن إسرائيل خرجت إلى عمليتها لإنزال ضربة شديدة لحماس). ولن يستطيعوا فقوة حماس ليست في السلاح بل في استنهاض القوة الروحية، وبعث تلك القوة ضد الإرهاب الإسرائيلي الذي نرى صوره حية ومباشرة. فنحن في عصر الأقوياء، ولا مكان فيه للضعفاء والمتواكلين، وإن أحاطت بهم الفتن من كل جانب. وهو ما أكده - البروفيسور - (مارتين فان كرفيلد)، وهو خبير عسكري صهيوني متخصص في دراسات مستقبل الحروب، بأن: (مقاتلي الحرية دائما ينجحون، لذلك ليس أمام الجيش النظامي الذي يواجههم إلا الإخفاق. ومن الصعوبة بمكان أن نجد جيشا نظاميا نجح في مواجهة انتفاضة كالتي نواجهها. ما يحدث معنا اليوم حدث مع الأمريكيين في فيتنام، ومع الجيش الإسرائيلي في لبنان، ومع الروس في أفغانستان، وهذا ما سيحدث معنا مرة أخرى). ويؤكد كرفيلد: (أن إسرائيل تملك قوة، ولكن معظم هذه القوة لا يمكن أن تستعملها، وحتى لو استعملتها فثمة شك في نجاحها. فالأمريكيون أنزلوا ستة ملايين طن من القنابل على فيتنام، وقتل خمسون ألف أمريكي مقابل ثلاثة ملايين فيتنامي، وقتل عدة آلاف من الفرنسيين مقابل ثلاثمائة ألف جزائري، لكن ذلك انتهى بهزيمة القوات المحتلة. إن هذه مواجهة، الذكي لا يقتحمها، ومن اقتحمها فعليه أن يجد الطريق بسرعة للخروج من وحلها، فإسرائيل دخلت في مواجهة خاسرة ضمنا، وهذه المواجهة ستنهينا). ويضيف - المفكر والاستراتيجي الإسرائيلي - (روتشيلد)، أنه: (ما دام كان هناك فلسطينيون يؤمنون أنه بالإمكان تحقيق مكاسب عن طريق القوة والعنف، ومادام لم تقنعه قوتنا أنهم يقدمون على انتحار حقيقي عبر استخدامهم القوة العسكرية، فإنه يتوجب الاستنتاج بشكل سريع أن عوامل الردع في مواجهتهم قد أخفقت).
بقي أن أقول: إن من المخجل في مثل هذا التوقيت الحرج الذي تعيشه الأمة اليوم، وقد اختلطت الأمور على البعض أن يستمر بعض الكتاب، وكذا بعض وسائل الإعلام من خلال أطروحاتهم وضمن صراعات أطياف متباينة في رؤاها تجاه القضية، بترسيخ مبدأ الانقسام في الصف الفلسطيني، والنيل من حركة المقاومة، وكأن حماس هي العدو وليست إسرائيل. وكما أن الصراع الدائر اليوم يستوجب إعادة اللحمة الوطنية الفلسطينية، وهو ما أكدنا عليه مرارا. فإن توحيد صفوف الأمة كلها على كلمة سواء، ونبذ الخلافات، ورأب الصدع الداخلي بين الأنظمة ومجتمعاتها أمورفي غاية الأهمية.
drsasq@gmail.com