أتابع منذ فترة ما يكتبه محرر شؤون الشرق الأوسط في محطة الـ BBC جيريمي بوين، عن الحرب الشرسة التي يشنها العدو الإسرائيلي على قطاع غزة ضمن يومياته التي تنشرها الـ BBC يوماً بيوم، والذي قال في بعض تقاريره:
(منعت إسرائيل دخول الصحفيين إلى غزة وقد وعدت بالسماح لفريق صغير من الصحفيين المتواجدين في القدس بدخول القطاع وإلى أن يتم ذلك فإن تغطية بي بي سي كلها تأتي من الجانب الإسرائيلي).
وبين هذه التقارير بالحرف الإسرائيلي وتلك الصور التي تعج بها الشاشات الصغيرة هذه الأيام، قفز إلى ذهني اسم (بسمة)، وبسمة - لمَن لا يعرفها - هي امرأة فلسطينية مقهورة تحدثت إلى قناة BBC العربية وصرخت في عالم الصمت، وقد جعلت من الأطفال مقياساً للكارثة على أيدي صناع الكوارث على الأرض، إنهم الصهاينة محترفو الحروب وقادة الرعب في العالم الجديد، إنها تصرخ: (الرعب ملأ قلوبنا بحلول الساعة الحادية عشرة، الطائرات الإسرائيلية تحلق فوق البيوت، والقصف بدا مباشراً وكثيفاً ومدمراً بشكل لم نعتد عليه من قبل. تخيل مدى الفزع الذي تشعر به، أو حتى تراه في عيون الصغار، عندما تحلق الطائرات الضخمة على ارتفاع منخفض فوق الرؤوس. وضعت يدي على قلبي ألا يسقط الصاروخ القادم من الطائرات على منزلنا، لكن ماذا لو سقط على المنازل الأخرى حيث يقيم أقرباؤنا وأصدقاؤنا؟ وبالفعل قضى قريب لنا وهو في طريقه إلى عمله دون أن يتخيل أنه لن يعود إلى أهله مرة أخرى جراء القصف. ما فيك تتصور مدى قسوة هذا الإحساس، خاصة إذا جاءت طفلة صغيرة لتقول لنا: (عمو مات) دون أن تدرك معنى الموت. هذه الطفلة ذات الأعوام القليلة ظلت تردد: (الإسرائيليين بدهم يقتلوني أيضاً)، دون أن تفلح محاولتي في تهدئتها).
وصورة أخرى من نفس الزاوية المؤلمة للعالم الصامت: أم فلسطينية مكلومة كانت تصرخ: (ابني، ابني) وتبحث بأحد المباني. وتمكن بعض الأشخاص من العثور على ابنها وهو في العشرينيات من عمره، لكنهم لم يسمحوا لها برؤية جثة ابنها، أتدرون لماذا لم يسمحوا لها برؤية ابنها المفقود تحت القصف الصهيوني؟ لأنه كان جثة بلا رأس وبلا أحشاء، نعم جثة بلا رأس وبلا أحشاء في عالم يتشدق بحقوق الإنسان. والمحزن أن تلك الأم المفجوعة فقدت وعيها فوق بقايا ابنها التي كانت مغطاة بأوراق بيضاء، تماماً مثل هذا العالم الذي فقد عقله وصوابه وهو يواصل الصمت الأليم تجاه غزة المحروقة.
من هنا في الرياض التي بكت من أجل غزة، ولم تجف دموعها بعد، الرياض التي وجه خادم الحرمين الشريفين باستقبال جرحى غزة في مستشفياتها، ومساعدة مصابي العدوان الصهيوني الغاشم، لم تكتفِ الرياض بهذه الوقفة المسؤولة من خادم الحرمين الشريفين، بل تشهد مآذن مساجدها بنصرة إخواننا هناك في غزة، عندما ترتفع الأصوات بالدعاء نصرة لهم، ثم تتوالى التبرعات من أجل غزة من المواطن والمقيم، على حد سواء. إن تلك الصور شكل من أشكال النصرة في دائرة المستطاع للمجتمع السعودي وغيره من المجتمعات العربية؛ وبهذا سجل التفاعل الشعبي العربي موقفاً رائعاً بكل المقاييس، كما نجحت الآلة الإسرائيلية بامتياز مسبوق في تكريس الكراهية لدولة الصهاينة في نفوسنا ونفوس أجيالنا القادمة بما تمارسه من همجية حربية وغطرسة سياسية غير مسبوقة في العالم المتحضر.
إن غزة - في نظر العقلاء - كشفت المستور في الواقع العربي، ويكفي اختلاف التناول الإعلامي لما يحدث في غزة منذ بدء نزف الجرح الفلسطيني حتى الآن: اختلفنا في تسمية الحدث: نكبة، كارثة، اجتياح، معركة، غارة، عدوان، حرب، إرهاب، مأساة، عدوان، إحراق، غزو، واختلفنا - أيضاً - حول تسمية من يقتل هناك في غزة... هل هو شهيد أم قتيل أم...، واختلفنا في تفسير ما حدث، وعللنا تخاذلنا نحن العرب والمسلمين تجاه قضيتنا العادلة قضية الأقصى، بأسباب بعيدة كل البعد عن المواجهة الحقيقية مع الذات العربية المنقسمة على نفسها دون غيرها. واختلفنا وما زلنا نختلف حتى في أحلك الظروف، بل إننا اختلفنا في كل شيء إلا في تبادل الاتهامات وتقاذف الواجبات والمزايدات التي تدل على إفلاس الواقع العربي على كافة المستويات.
إن غزة - باختصار - شاهد عصر على احترافنا نحن العرب للاختلاف المحترف، بل إنها سلسلة من الدروس القاسية للعقل العربي وقبله الضمير العربي الذي يبدو أنه فقد لياقته.
لقد تأملت خلال الأيام الماضية خريطة المشهد الإعلامي العربي؛ لعلي أجد قواسم مشتركة نجتمع حولها تجاه إخوتنا هناك في غزة؛ فلم أجد إلا تضاريس واضحة المعالم في خريطة الاختلاف العربي، رغم أننا نعيش في عصر التكتلات السياسية والاقتصادية.
وأخيراً.. لقد قالها ابن الفيصل وحفيد المؤسس وصفق له كل عربي مل الضيم والظلم الأممي عندما قال الأمير سعود الفيصل: (إن عدم معالجة مجلس الأمن للقضايا العربية المشروعة بالجدية والمسؤولية ستدفع العرب إلى أن يجدوا أنفسهم مرغمين على إدارة ظهورهم لمجلس الأمن والنظر في أي خيارات تطرح نفسها)، وإن لم ننصر إخوتنا هناك في غزة، فعلى الأقل لا بد لنا من استيعاب الدرس جيداً، قبل أن المرحلة وتكبر أجيالنا الحاضرة، ويقولوا عنا أو لنا بكل ألم في محاكمة تاريخية: إذا لم توحدكم الجراح، ولم تجمعكم غارات القتل والدمار، ولم توقظكم صرخات الطفولة الخائفة، وصيحات النساء الثكالى، ودموع الرجال المقهورين، فمتى نراكم جسداً واحداً، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، متى؟