Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/01/2009 G Issue 13256
الثلاثاء 16 محرم 1430   العدد  13256
للتسويق وجه آخر!!
د. خالد بن محمد الخضر

 

نزولاً عند رغبة كثير من القراء لإعطاء هذا الموضوع حقه أعود اليوم لإكمال ما ذكرته في مقالي السابق حول التسويق بشكله العام حيث تختلف الشعوب والأمم حسب اتساق طباعها وتنافر معتقداتها في ثقافة التسويق الخاصة بها؛ لذا فقد دأبت الشعوب البدائية ومن بداية الخليقة على تسويق منتجاتها الزراعية والحرفية بشكل بسيط ومتواضع، وامتدت تلك الآلية ردحاً من الزمن ثم تطورت حسب المعطيات والظروف، وظلت الشعوب والأمم تمارس ذات النهج وذات الطريقة البدائية، إلى أن بدأت صناعة التسويق تأخذ منحى آخر يقوم على الحرفية والمهنية؛ فبدأت الشعوب الأكثر تقدماً بإعطاء هذه الصناعة الاهتمام الذي يكفل لها الاستمرار والنجاح. وفي بدايات عصر التقدم التكنولوجي أخذت صناعة التسويق بانتهاج أسلوب يقوم على الاحترافية والمنهجية العلمية تأسيساً ومتكأً؛ فقد تطورت المنافسة على مستوى الصناعة والبضائع بحيث لا يمكن معها تقديم السلعة أو البضاعة دون نهج تسويقي يقوم على التخطيط والأسس المهنية لتلك الصناعة التي تعتمد على أربعة محاور: المنتج، المستهلك، السعر، المنافس، وهناك عناصر أخرى تدخل في معادلة العملية التسويقية بشكل أو بآخر، وأخذ التخطيط التسويقي والعملية التسويقية في التطور والتقدم يوماً بعد الآخر، وأولى علماء الإدارة والتسويق هذا الجانب حقه الذي يستحقه من جهد وبذل وعطاء؛ فإدارات التسويق في الشركات والمصانع والشركات الخدمية وحتى على المستوى التطوعي واللا ربحي تأخذ المكانة اللائقة بها في الاهتمام والمكانة، والتسويق يقوم على الإقناع المنطقي والمُسَبَّب في جودة بضاعة عن أخرى؛ وهو بالتالي عملية تقديم منتج أو سلعة أو نشاط إلى المستفيد بأسلوب يقوم على الإقناع والعرض اللائق والمنافسة السعرية والجودة في الإنتاج والعمل؛ وبالتالي القبول والرضا لدى العميل والمستهلك الأخير. هذا على المستوى الصناعي والخدمي وهو بحث يطول شرحه وتفصيله، ولكن على المستوى الفردي، وهو موضوعنا في هذا المقال، فالتقديم والتسويق الشخصي لكثير من الأفراد يعتريه النقص وعدم الخبرة واختفاء عنصر الثقافة والذكاء الاجتماعي وغياب عامل التطوير الذاتي والاجتماعي لدى الأفراد، وهذا كله ينطبق انطباقاً كاملاً على معظم الأفراد على جميع مستوياتهم التعليمية والاجتماعية والعمرية؛ فلا فرق بين رئيس ومرؤوس، ولا وزير وغفير، ولا كبير وصغير، بل إن معظم الأفراد يتساوون في آلية تقديم أنفسهم وتسويق ذواتهم بين ذويهم أو على المستويات الاجتماعية كافة، وللبحث عن مرد هذا النقص والقصور فإن الأمر يطول ويحتاج إلى مساحة أكبر مما تسمح له تلك المساحة في هذا المقال، ولكن سآتي على بعض المقومات والمعطيات التي تدفع بالشخص للنجاح والارتقاء في عملية تطوير تقديم نفسه أو مَن حوله، وغياب تلك المقومات التي من أهمها عامل الخبرة والتجربة والتطوير الذاتي، وغياب الدورات التدريبية التي تعنى بهذا الأمر، والاحتكاك بأصحاب التجارب والخبرات والانكفاء على الذات والتقوقع حول دائرة الأصدقاء والمنزل، والتوجس من حضور المناسبات والندوات والمنتديات، وعدم الاستفادة من الأفراد والشعوب التي سبقتنا في ذلك كل ذلك يؤدي إلى التراجع والتقهقر التسويقي بذات الفرد؛ وبالتالي تهميش القدرات وغياب النجاحات، وأعني بتقديم وتسويق الذات هنا التسويق الذي يرتكز على الأسس الشرعية والأخلاقية والمنطقية التي لا تقوم على الابتذال أو الإهانة أو خدش كرامة الإنسان أو آدميته، بل تقديم يقوم على منطق الرقي والأخلاقيات العالية؛ فعندما يكون الإنسان لبقاً ودوداً صادقاً واثقاً بنفسه وأطروحاته محترماً الكبير والصغير ومُنزلاً الناس منازلهم ومهندماً وباشاً ومبتسماً وموجوداً في المحافل الاجتماعية وفاعلاً في خدمة أمته ووطنه فإنه سيكون محل احترام الجميع وتقديرهم دون إسفاف أو ابتذال، إلا أن الوصول إلى الأهداف والغايات بأساليب غير شرعية وبطرق ميكافيلية وبالتسلق اللا إنساني وبهدر الكرامة وفض الآدمية الإنسانية، كل ذلك سيضع هذا الإنسان محل الاستهجان والإنكار. يقول الكاتب الفرنسي روجيه جارودي عن هذا المنحى وكيف أن كثيراً من الناس يسلكون كافة الطرق الشرعية وغير الشرعية لتحقيق أهدافهم دون مراعاة لعامل القيم والأخلاق يقول: (إن تمسك الإنسان واهتمامه (بلغة السوق) هما اللذان يحددان مدى (روحانيته)؛ وبالتالي مدى رضاء هذه اللغة عنه؛ أي أن الرأسمالية وديانة السوق والإهانة الذاتية كلها تصب في البحث عن أي شيء وبأية طريقة للوصول إلى أهدافك وغاياتك بعيداً عن الأخلاقيات والقيم)، وهذا هو الخط الفاصل بين الفضيلة والرذيلة من خلال تقديم الإنسان نفسه، وليس عيباً في ثقافة الأمم والشعوب المتقدمة أن يقدم الإنسان نفسه ويعرف بمهاراته وقدراته، بل إن ذلك هو من صميم نهجنا الإسلامي حينما قال سيدنا يوسف عليه السلام لملك مصر: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (سورة يوسف: الآية 55). وكذلك عندما طلبت ابنتا شعيب عليه السلام إقناعه باستئجار سيدنا موسى عليه السلام: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} (سورة القصص: الآية 26).

التسويق الحضاري والمنهجي عن النفس هو أمر مهم لدى الجميع؛ فنجاحاتك في عملك ووظيفتك وبين أسرتك تقوم على أسلوبك في تقديم ذاتك وشخصك، وما أدل على ذلك إلا اختيار السفراء والوزراء والمفاوضين حين تنتدبهم الدول والحكومات؛ فهي تقوم باختبار دقيق وفاحص لأولئك المُرْسَلين من حيث المنطق والعلم والشكل والحكمة والأسلوب والرصانة والعقل. وكان رسول الهدى عليه أفضل الصلاة والسلام يقوم باختيار رسله والمفاوضين على أعلى مستويات الاحترافية والمهنية كمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن، وغيره كثير من الرسل، وهذا يدلل على تلك الأهمية التي ينادي بها إسلامنا ومجتمعنا ومنهجنا. تقديم النفس والتسويق لها تجده في أوضح صورة عندما تقوم بعملية المقابلات الشخصية للشباب المتخرج حديثاً أو حتى لبعض القياديين من المديرين والقادة، كما ذكرت في المقال السابق، فإنك ستقرأ ذلك بوضوح وبشكل جلي عندما تلتقي بأحدهم وتتفحص معالم تلك المقابلة، وهو انعكاس خطير لثقافة المجتمعات وبالذات المجتمع العربي، وقد نستثني من ذلك بلداً كلبنان حول تقديم النفس وتسويق الشخصية؛ فهم من أفضل الشعوب العربية في هذا المنحى. أزمة يعيشها العالم العربي في تسويق نفسه وإعلامه وأخلاقياته وإسلامه وأفراده، أزمة على المستوى الشعبي وأزمة على المستوى الشخصي.

كاتب سعودي


Kmkfax2197005@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد