Al Jazirah NewsPaper Friday  09/01/2009 G Issue 13252
الجمعة 12 محرم 1430   العدد  13252
نوازع
نتائج الثقافات
د. محمد بن عبدالرحمن البشر

 

أتساءل كثيراً، لماذا يقبل أبناء معظم الدول الإسلامية والعربية سواء كانوا في موقع قرار معين أو في موقع إنتاج أقل من غيرهم، فأقول: ربما لأنهم لا يرغبون أن يعملوا، ولماذا لا يرغبون أن يعملوا؟ ربما لأنهم كسالى، ولماذا هم كسالى؟ ربما لأنهم ينساقون وراء أهوائهم وشهواتهم، ولا يدركون نتائج أفعالهم، مع أنهم يعيشونها، فقد استمرؤوها وطابت أنفسهم بها، وخلدوا إلى الراحة مع العناء والفاقة، راضين غير مدركين بأنه يمكنهم فعل الكثير، ونيل الراحة دون معاناة وفاقة ونيلها دون ذل ومهانة.

وعندما يستمرئ امرؤ امراً يصبح جزءاً من ثقافته، ومنهجاً لحياته ويورثها لمن يليه من أجيال فيعيشوا بها يداولونها بينهم دون محاولة لكسرها حتى يقيض الله من يحمل راية الفلاح، فتتغير كثير من المفاهيم والمناهج وربما تستمر الحال أو قد تعود أدراجها إلى سابقتها بعد فترة من الزمن.

لقد أرسل الله تعالى رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى أمة كانت لديها مفاهيم خاطئة وسلوك إنتاجي رديء, وثقافة تستمرئ الراحة مع العناء والفاقة، فكان ما كان، وبزغ نور الحق، واستبدل الكسل بالعمل، والشهوة والهوى، بالكد والعنى، والتنافر والتخاصم، بالمحبة والتراحم واستبدل التنافس والاستئثار، بالتقريب والإيثار، فظهرت في فترة وجيزة ثقافة جديدة، تم التحدث بها وتطبيقها على الواقع، فلم يجمع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مالاً، ولم يرُم سلطاناً، بل ظل يمر عليه الشهر وأكله الشعير، وحتى الأثرياء من أصحابه أنفقوا الكثير من أموالهم في سبيل الخير ونصرة الحق، وكانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

والطاعة الإدارية كانت ديدناً جنبهم الكثير من المآسي في تلك الفترة، وشاهد ذلك تلك الراية التي قلدها أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- لأسامة بن زيد مع وجود عدد كبير من الصحابة، ملتزماً بما سبق للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن أمر به قبل وفاته فسمعوا وأطاعوا.

هذا النمط من السلوك والثقافة التي سادت أبدلت الذلة بالعزة والعمل الطالح بالعمل الصالح، كما أرست مفهوم الراحة بالعمل والاستئناس به، بدل الراحة مع الكسل، فكانت نتائجها سعادة دنيوية وأخرى أخروية، فعاش من عاش في كنفها كريماً قنوعاً مرتاحاً بحبه للخير والسعي في سبيله.

بعد فترة أخذ تطبيق هذه الثقافة ينحسر فكان ما كان، مع بقاء الثقافة ذاتها بين طيات الكتب، تظهر تارة كما كان في واقع عصر الخليفة عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، وغيره، وتخبو في مراحل أخرى، والأمر الأدهى أن هناك من يخرجها من مكامنها ليصيغها حسب هواه وتحقيق مآربه، فيسيء إليها وهي منه براء.

ثقافة النظام واحترام حقوق الغير، والعمل الجاد المثمر، والصبر، والمثابرة، والصدق، والإخلاص، ومخافة الله، هي سر النجاح، وسر العزة، وسر القدرة، وبها كنا وبتركها صرنا، ومن باب العدل أن نقول إن هذه مفاهيم إنسانية استفادت منها أمم ودول وطبقتها ونجحت بها، فأصبحت أجدر بالمكانة من تلك الدول التي تركتها بين طيات الكتب، مستبدلة إياها بالركون إلى ثقافة الراحة بالكسل، بدل الراحة بالعمل، ونحن نعلم أن بعض الشعوب تجد أنفسها مرتاحة عندما تكون على كرسي العمل، وشعوب أخرى تجد نفسها مرتاحة بالمعاناة مع الكسل، لكن راحة الشعوب الجادة دائمة، والأخرى نكدة زائلة.

نذكر مقولة سائدة لرجل الأجدر ألا أذكر اسمه حيث قال: (إنني لا أخشى العرب إلا إذا عرفوا كيف يصطفوا عند ركوب الحافلة)، هذه جملة قيلت لكنها ذات مغزى كبير ومفهوم واسع، وقد يكون أهدى لنا دون أن يريد نعماً ليس في طيها نقم، خلاف ما أومأ إليه الشاعر الأندلسي المنافق في مدحه للمعتمد بن عباد، هذه الجملة مدعاة للتأمل والتفكير، فهل حقاً ذهب أحدنا إلى أي دولة عربية ووجد الناس مصطفين بانضباط عند ركوب الحافلة، أو شراء فول وخبز، أو طلب وظيفة، أو مراجعة دائرة حكومية، أو ليحصل على حجز في شركة طيران. وهل حقاً جاء ليصطف ضامناً حقه الذي لا يعتدي عليه أحد، متأكداً أن غيره لن يميز عنه، وأنه وغيره سواء بسواء، لا أظن ذلك ولعلني أكون مخطئاً، وما نشاهده أننا قبل أن نذهب إلى أي مكان لإنجاز خدمة معينة نبحث عن وسيط يشفع لنا لأخذ حق لنا، ولو ليس لنا بحق وإنما نطلب منه الشفاعة في إنجاز ما نبتغيه حتى وإن كان على حساب غيرنا، أو حساب نظام وضع ليُحترم من الجميع على حد سواء.

متى ما استطعنا الاصطفاف عند ركوب الحافلة أمكننا الذود عن غزة وفلسطين وغيرها من الأراضي الإسلامية والعربية وإلا فما علينا إلا الشجن، والتألم، والحزن، والتعاطف، والمواساة، والانتظار لعل المجتمع الدولي يتكرم بالنظر في موضوعنا، ويعطينا من عطفه ما تجود به نفسه، دون أن نكون نداً وجزءاً من هذا المجتمع، نأمر كما يأمر وندافع كما يدافع، مع تميزنا بثقافة عدل وسلام ظلت حبيسة الكتب تنتظر من ينفخ عنها التراب ليعم العدل والسلام العالم أجمع.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد