زاوية تهتم بكل ما يتعلق بالطب النفسي والتنمية البشرية وتطوير الذات.. نستقبل كل أسئلتكم واقتراحاتكم.
أردت أن أسألك عن سبب عدوانية الأطفال، فابني أصلحه الله عدواني، ولا أريد أن أقول إنه عدواني جداً، لأني ليس لدي الخبرة الكافية، وهو أيضاً حركي جداً وهذا يعجبني فيه، لأنه دليل على ذكائه إن لم أكن مخطئة، لكنه في الفترة الأخيرة منذ شهرين تقريباً أصبح عدوانياً إذا خرجت لمناسبات أخجل منه لأنه لا يترك أحداً إلا ويضربه حتى الكبار.
* أخبرني يا دكتور عن سبب ذلك؟ وفرضاً كان ابنك - أبعد الله عنه الشر - هكذا كيف ستتعامل معه؟؟
- الأخت الكريمة .. للعدوانية عند الأطفال أسباب كثيرة ومتعددة، وتحديد عمر الطفل هو أمر بالغ الأهمية هنا، لكنك للأسف لم تذكريه، ومع هذا فأحد مفاتيح فهم جذور العدوانية عند طفلك، قد يكون ما ذكرتيه عن حركته الزائدة التي ليس بالضرورة أنها تعبِّر في كل الأحوال عن مستوى ذكاء عالٍ، لأنّ الأمر هنا يخضع لطبيعة الحركية عنده، بمعنى هل هي حركات في مجملها مقصودة وذات مغزى وهدف محدد، وبالتالي فهي تعبر عن ارتفاع مستوى الذكاء الحركي بالفعل عند طفلك، أم أنها في الغالب حركة عشوائية ليس لها أي هدف ولا يصل بها إلى نتيجة ملموسة، بل قد يكون فيها نوع من الاندفاعية أحياناً التي قد تعرّضه للخطورة مع نقص في القدرة على التركيز على مهمة واحدة محددة، وهو الأمر الذي قد يؤدي بالأطفال من هذا النوع، إلى اللجوء إلى العنف أحياناً كرد فعل لإحساسهم الداخلي بالتشتت وضعف التركيز.
- بالطبع لا يمكن الجزم بوجود هذه العلامات لدى طفلك، دون إجراء الفحص النفسي المطلوب، للتأكد من أنه لا يعاني من ما يسمى طبياً باضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه Attention Defecit Hyperactivity Disorder - ADHD - علماً بأنّ هذا الاضطراب لا يتم تشخيصه عند الطفل، إلا بعد بلوغه السابعة من العمر، نظراً للحركية المعتادة التي تسبق هذه السن، والتي تعتبر عادة جزءاً من النمو النفسي الحركي الطبيعي لأطفال ما دون السابعة.
أمر آخر بالغ الأهمية هنا، هو إحساسك بأنّ عدوانيته قد ازدادت في الشهرين الأخيرين تحديداً، فهل هناك من ضغوط أو تغيرات جذرية في محيط الأسرة أو البيت؟؟ أعني هل أصبحت بيئة المنزل أكثر توتراً، وهل يشاهد الطفل مثلاً أي نوع من العنف أو العدوانية داخل المنزل ولو بالألفاظ وليس شرطاً بالاعتداء الجسدي، لأنّ العديد من الدراسات النفسية التي تناولت السلوك العدواني للأطفال، تشير إلى تقمص الطفل لذات السلوك الذي يشاهده سائداً في المنزل، بل إنه قد يعتقد أنّ هذه هي الطريقة الوحيدة والصحيحة لإدارة أي نزاع، وهي اللجوء إلى العنف والعدوانية كحل، ناهيك عن الدور الذي تلعبه أيضاً البرامج التلفزيونية والألعاب الإلكترونية ذات الطابع العنيف، والتي تعزّز لدى الطفل العدوانية وتشجع عليها، كمظهر من مظاهر البطولة والشجاعة، خصوصاً إذا كانت هذه النوعية من البرامج والألعاب هي السائدة عنده، فالطفل هنا يمكن تشبيهه سلوكياً بالاسفنجة التي تمتص ما يجري حولها، فإذا كان ما حولها هو ماء عكر (سلوكيات مضطربة)، فلا يمكن أن نتوقع أن يخرج منها ماء عذب (سلوك صحي)، بل المتوقع أن يعبر الطفل بنفس الطريقة التي يراها سائدة في بيئته، خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار محدودية المخزون اللفظي لدى الأطفال، والذي يحملهم في العادة على التعبير عن دواخلهم سلوكياً، في ظل عدم قدرتهم على الإفصاح عن ذلك بالكلمات.
جانب ثالث في تحليل عدوانية طفلك وهو مدى نجاحه في الاندماج والمشاركة مع بقية الأطفال في مثل سنه خصوصاً في ظل حركيته، التي قد تظهر بشكل اندفاعية في بعض الأوقات، وهو الأمر الذي قد يؤثر على قبوله من مجموعات الأطفال في المناسبات الاجتماعية.
لنأخذ مثالاً صغيراً يوضح هذه الفكرة: يقوم الأطفال في إحدى المناسبات الاجتماعية بعمل حلقة للعب مع بعضهم، وتقوم اللعبة كما هي العادة في الكثير من ألعاب الأطفال، على انتظار كل طفل لدوره، أي أنّ هناك تنظيماً محدداً للعب، ولكن ماذا يحدث عندما يدخل على الخط طفل حركي مندفع لا يقبل الانتظار لحين وصول دوره! بالتأكيد سيتسبب في إفساد اللعب، وعندها فإن ردة الفعل الطبيعية من بقية الأطفال هي رفض مشاركته لهم، لأنه ببساطة لا يتقيد بشروط اللعبة. في المقابل فإنّ الطفل الحركي يشعر عندها بالنبذ والرفض من المجموعة، مما يجعله يتصرف بطريقة عنيفة وعدوانية، وقد يتحول هذا السلوك مع الوقت إلى نمط سلوكي يتميز به هذا الطفل، لدرجة تشعر من حوله بأنه ذو شخصية عدوانية، وما لم يتم تفهم جذور المشكلة الحقيقية عند الطفل والتعاطف معه بشكل صادق، فإنّ الوضع قد يزداد سوءاً مع الوقت.
إجمالاً لا بد من وضع اليد أولاً على الدوافع الأساسية لسلوك طفلك، ومن ثم يتم الانطلاق من خلالها لوضع الحلول العملية، فقد يكون كل ما يلزمك هو توفير جو أكثر تفهماً ودفئاً في المنزل، بعيداً عن اللجوء لأساليب عنيفة في التربية، كذلك محاولة قضاء بعض الوقت في مراقبة طريقة مشاركته في اللعب، وردود فعل بقية الأطفال، والتدخل بحكمة لمساندته في الوقت المناسب، مع إشعاره بضرورة اللجوء لك للتدخل عند الحاجة قبل القفز لاستخدام العنف، وعندما يشعر الطفل أن سلوكه المنضبط مقدّر من قِبلك، ويجد التحفيز المناسب، مع عدم إغفال وضع ضوابط وعقوبات واضحة في حال الإخلال بالاتفاق، كحرمانه مثلاً من بعض الألعاب المحببة له لفترة متفق عليها مسبقاً، مع توضيح الخطأ السلوكي الذي دعاك لاتخاذ هذا الإجراء معه بشكل واضح، فإنّ ذلك كفيل بإذن الله بتعديل سلوكه مع الوقت، لكنك ستكونين بحاجة إلى الصبر والانضباط الحقيقي في التطبيق، حتى لا يشعر هو أنها مجرّد ردّة فعل مؤقتة وستنتهي.
أسأل الله أن يعينك على تربيته التربية الصالحة التي تصنع منه عنصراً فاعلاً في بناء المجتمع.
إضاءة
قال تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.
دكتوراه في الطب النفسي
كلية الطب ومستشفى الملك خالد الجامعي - الرياض
e-mail: mohd829@yahoo.com