يتّسم البناء المعرفي للذهنية التكفيرية بالجمود التفكيري والتعصب الذي يعيق المتلبس به عن أن يدلف في مداورة حوارية، فضلاً عن أن ينخرط في عملية تبادل فكرية يجري عبرها التجافي
- بعد إعادة المعاينة القرائية وتعميقها - عن جزء من متبنيات الأنا التي قد يتجلّى تضاؤل سوية حظها من البعد الموضوعي؛ العقلية
التكفيرية نتيجة لتوتر بنيتها السيكولوجية، هي عقلية متحجرة تتعامل بفكرة القوة لا بقوة الفكرة، فهي لا تفكر بطريقة عقلانية فأداؤها التفكيري محكوم بحالة نفسية بالغة القمعية تملي عليها الانطلاق من خلال اللاتفكير وعبر اللاوعي.
التعصب ليس سمة بيولوجية وموروثات جينية وبعداً جبلياً ينتظم البشر ويشدهم إلى جاذبيته - إذ لو كان كذلك لكانت كل العقول مرتكسة في مستنقعه - بقدر ما هو داء سلوكي مكتسب وظاهرة عامة من ظواهر الاجتماع البشري يكتسبها الفرد في ضوء تشكل شروط ثقافية واجتماعية معيّنة، تتعالى مرشحات توفرها في الأجواء التكفيرية الصاخبة التي لا تفرز - في أحسن أحوالها - سوى عقول منغلقة يستبد بها التعصب، حتى يؤول بها إلى الانكفاء نحو الداخل والارتداد صوب الذات والتقوقع في الزوايا الضيقة، وهذه نتيجة حتمية للتصلب العقلي، إذ أنه عندما تغيب معاني الانفتاح والرغبة في النزوح نحو الخارج ويتوارى استشراق الآفاق النائية، فالمعادل الطبيعي هو التمركز حول الأنا، والتخندق والمواجهة ورسم التخوم العازلة وتقويض جسور التماس التفاعلي مع الغير، وتحجيم حيوية التفاعل الثرّ مع متباين المنظومات الفكرية.
العقل التكفيري المدجج بالتعصب يعاني كما نلحظ من خلال متباين أدائه الكلي - ضمور الأبعاد العقلانية في طرائق التفكير، الشأن الذي ولد ضرباً من التعاطي المشوّه مع أزمات الواقع، وإجابة غير منطقية على تساؤلاته التي تحتاج إلى إجابات تتناغم مع المنطق العصري وتستجيب لكامل احتياجاته.
الشخصية التكفيرية تطغى لديها العاطفة على العقل فتعتمد الوجدان وتهمش - وبعفوية متكاملة - البرهان، فتتعاطى بمشاعرها لا بعقلها، هذا التحول السلبي في البنية السيكولوجية يخلفه بالضرورة تحول في الآليات المادية لعمل البنية العقلية.
المعيار العقلي ليس له دور يذكر هنا فهو مغيب وإن حضر فهو مجرد ضيف شرف, مُصادر دوره العملي، ولذا فالمرتكس في مستنقع التكفير أسير للأنانية العقلية والنفسية، عاجز عن معاينة الأشياء من عدة زوايا، فهو يحتكم إلى المنطق الثنائي: (إما معي أو ضدي) وليس ثمة خيار وراء ذلك. فهو حينما يتحيّز لشيء لا يستطيع أن يرى الجمال أو المصداقية أو الإيجابية في غير هذا الشيء، فيعتقد أنه هو الأصح بينما الآخرون غارقون في الخطأ.
إنها شخصية اضطهادية (البارانويا) فاقدة للسواء متطرفة في الانتماء، إذ عندما تؤمن بفكرة لا تتقبل ما عداها. التآلف مع معايير بيئته الفكرية على أشد صوره غلواً, وبالقدر ذاته ثمة نفور حاد وكراهية متأصلة للمقاييس المعيارية ذات اللون المغاير، إنه يتعاطى مع المسلمات العقلية لديه على نحو يتعالى بها عن أن تتنسب (من النسبية) - إذ النسبية ليس لها أدنى تموضع في قاموسه المعياري - ويرفض وبشكل قطعي أن توجّه إليها أي عبارة امتعاض، فضلاً عن موقعتها على طاولة التشريح الا بستمولوجي.
هذه العقلية الساقطة في هاوية التكفير السحيقة، لا تتعاطى مع سلسلتها الرؤيوية بحسبها مجرّد معطيات محكومة بالاحتمالات النسبية ذات القابلية التامة لتكرار المعاينة البحثية، وتقييم المعاين، وابتلاء مدى قسطه من الحقيقة الموضوعية، ومن ثم الاشتغال على تقويمه، وإنما يتعاطى معها بحسبها الحقيقة المطلقة التي لا تضاهيها حقيقة أخرى. أما الفكر المباين له فهو يحدق فيه بعيني الاستصغار فيعاينها ثاوية خارج إطار الحقيقة، بل عارية من كل ما يمت إليها بصلة وتبدو في نظره متفاصلة مع كل ما ينتمي إلى الخير أو الجمال أو الفاعلية.
هذا الخطاب لديه قدرة فائقة على تكوين حواجز معتمة وسميكة بينه وبين المخالفين وتعميق الانفصال عنهم، وذلك عن طريق تشديده على أهمية الخلاف وأنه ليس عرضياً أو طارئاً، بل دائماً يلح على عمقه وجوهريته، بل وانه باعث على المفاصلة الحدية، ومن قال بغير ذلك، أو شاء توفير قدر من الانسجام بين الأفكار المتبناة والمغايرة, من اقترف جريرة ذلك فهو - في تصور هذه العقلية المتحجرة - خائن لمبدئه ناكص على عقبيه، ولا يستحق الانتماء إلى هذا التيار، وهنا تتعين تصفيته معنوياً، وقد تطاله تلك التصفية على المستوى المادي.
العقل التكفيري دائماً يلجئه تعصبه إلى تعميق التناقض مع مخالفيه وإبرازه كأصل في بنية خطابه، فبقدر نجاح خطاب (الأنا) يجري تهافت خطاب (الهو)، ولهذا هو يستميت في إبراز الثغرات الفكرية - طبعاً هي ثغرات من وجهة نظره فحسب - وبآليات خالية من الموضوعية وانها انحرافات ذات ملمح جوهري، وكونها كذلك يعني أنها ليست قابلة لاحتمالات النسبية وإعادة النظر، إذ لو كانت كذلك فثمة إمكانية - ولو بشكل أولي - لتجاوزها، وهذا ما لا يريده هذا الخطاب على نحو يحدوه إلى الإلحاح على مركزيتها التي تتعالى على إمكانية القراءة المتنوعة.
العقل التكفيري يحيل النسبي إلى مطلق، فهو بطبيعته تكوينه يستشعر الواقع الصراعي وعلى نحو مستمر، ولكي ينهي تفوقه في هذا الصراع - حتى ولو كان تفوقاً مستوحى من الإغراق في سبحات السريالية - يحول الأفكار الثانوية إلى أساسية ويجعلها ذات طابع صميمي، حتى ولو كان الشرط الموضوعي لا يقر بهذا المنحى.
إنّ الارتماء في أتون التعصب المقيت يتعارض مع أبيات المنظومة الإسلامية, وتقلاه الألباب الناضجة لما يؤول إليه من مخرجات بالغة في السلب منتهاه، الشأن الذي حدا بالقيادات الدينية للأمة إلى الاصطفاف المعارض له ومناهضته حتى في أدنى أحواله، فهذا الإمام (مالك) يقول: (ليس كل ما يقول الرجل - وإن كان فاضلاً - يتّبع ويجعل ويُذهب به على الأمصار) (ترتيب المدارك) (1-182)، وكان يحذر مريديه من التعصب لقوله أو التعلق برأيه في قبال النص حيث أثر عنه قوله: (إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنّة فخذوا به وكل ما لم يوافق الكتاب والسنّة فاتركوه) (الاعتصام) (2- 301) وذات المنهجية تتجسّد عند (القرافي) حيث يجلي خطته البحثية في كتابه (الذخيرة) قائلاّ: (وقد آثرت التنبيه على مذهب المخالفين لنا من أئمة المذهب الثلاثة ومآخذهم في كثير من المسائل تكميلاً للفائدة ومزيداً في الاطلاع فإن الحق ليس محصوراً في جهة فيعلم الفقيه أي المذهبين أقرب للتقوى وأعلق بالسبب الأقوى) (1-135). إننا لو بحثنا عن البواعث الحادية للتعصب لألفينا منظومة عليّة متكاملة يأتي في ذروة سنامها:
أولاً: الجهل بوجود الخلاف في المسألة إذ أن الافتقار إلى خلفية معرفية متكاملة في المسألة وعدم إدراك أن ثمة مذاهب شتى فيها على نحو يخال المرء أن ثمة إجماعاً قطعياً هنا يجعل الفرد يعتقد وبدوغمائية حادة أن القراءة المغايرة للمسألة ليست الا اختراقاً لا معرفياً للإجماع فيتبنى موقفاً عدائياً ضد من يتعاطى بآلية مباينة لما استقر في خلده وتأصل في تركيبته الذهنية.
ثانياً: الجهل بما يجوز فيه الاختلاف. فعندما يعزب عن الوعي الفرق بين المسائل الاجتهادية القابلة بطبيعتها للجدل والتعاطي المتعدد والتلون القرائي من جهة, والمسلمات القطعية المتعالية على الخلاف والمحسومة على نحو نهائي من جهة أخرى, ولا يتم التفريق بين الأصول والفروع، فهنا تتبلور دواعي الدوغمائية وتبيت الأرض خصبة لترعرع تمظهرات التعصب.
ثالثاً : العامل السياسي حينما تدلف السياسة في الخلافات الفرعية. فالفاعل المعرفي هنا يكون خاضعاً لتأثيرات سياسية توجهه بوعي أو بدونه إلى تبني رؤية مّا تقاطعا مع هذه السياسة أو تلك، وهذا أمر يحدث بكثرة إذ ان العامل السياسي بما يتوافر عليه من منطق القوة يأخذ بتلابيب الوعي الواقع تحت ضغوطه ويوجهه حيثما توخى، ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما حدث أيام (المأمون) عندما تبنى رأي المعتزلة وقال بخلق القرآن، وأجبر القيادات الفكرية على التواطؤ معه في ذلك وقد آل ذلك إلى نشوء تيارات مضادة.
رابعاً : الذوبان في شخصية الشيخ. حيث أن تقديس الطالب لشيخه يحمل إلى القول بقوله والتمذهب بمذهبه, الإعجاب المفرط هنا يحجب الوعي عن معاينة ما يتخلل هذا القول من ثغرات وحتى لو أوقفه سواه على مواطن الوهن التي تقلل من القيمة العلمية لهذا القول، فإنه لا يسترشد بل يندفع بفعل العاطفة التقديسية المتوقدة بين جوانحه إلى البحث اللاهث عما يقوي قول شيخه، ويتطلب له البراهين ويتلمس له الحجج ويلفق الأدلة ويُجهد ذاته متعسفاً وهذا كله بفعل طغيان العاطفة على العقل وهو أمر يجفل منه أرباب التحقيق الذين لهم كمال إدراك، إذ هو ديدن الأغبياء ودأب المأفونين الذين فتنوا بالالتفاف حول الأشخاص والفناء في رموزهم، واعتقلوا في سجن التقليد وكُبلوا بآراء الرجال، فهم لا يقفون على أرضية ثابتة، وإنما على رمال متحركة، الأمر الذي أحالهم إلى مجرد صدى لآراء شيوخهم الذين يكْفون مريديهم تجشم عناء التفكير من خلال إشاراتهم الملهمة وأقوالهم المعصومة!!
خامساً: التوسط بين العامة والخاصة. فثمة فئة لهم حظ لا بأس به من العلم الذي نأى بهم عن طبقة العامة وميزهم عنهم ورفعهم عليهم درجة - فقط درجة واحدة لا درجات - ولكنهم في المقابل لم يصلوا إلى درجة الخاصة، حيث إنهم لم يحرزوا عدة المعرفة ولم يحققوا كمال التأهل, نعم قد تكون القراءة جزءاً من برنامجهم اليومي وجزءاً من سلوكهم العام لكنها قراءة تقصي المعرفة وتشوش على الوعي إذ إن بحثهم في بطون الأسفار وقراءاتهم المتواصلة - بحكم اعتمادهم المجرد على ذواتهم - فاقدة للمنهجية والتأصيل، فهي قراءات مبعثرة هنا وهناك ولا ينتظمها رابط معين فهي قراءات حاطب ليل، يتضح ذلك من خلال ما يُسطر من مقالات أو ما يؤلف من كتب لا يخفى على ذي البصيرة المؤصل ما تحمله في ثناياها من هفوات معرفية ومآخذ منهجية تشي بدونية المنحى التأصيلي وهشاشة الأرضية التي يجري عليها التحرك. والعجيب أن كثيراً من هذا الصنف لا يتورع عن أن يضرب بسهم في كل مجال فتجده يتحدث في كل ميدان ويكتب في كل موضوع ويدلي برأيه في كل مناسبة وقديماً قيل: (من تكلم بغير فنه أتى بالعجائب) ولاشك أن هذا هو نتيجة مباشرة لعدم الوعي المفصل بإمكانيات الذات الذي هو أجلّ أضرب الوعي بل هو المقدمة الضرورية للوعي بالأشياء.
سادساً: الحسد حيث يحمل المتلبس بدائه على رد ما جاء به الآخر المحسود حتى وإن كان منهجياً جارياً على خط الصوابية. الحاسد هنا يستنكف من تقبل ما يقول به الآخر وينفر من التسليم بقوله, الحاسد هنا بفعل ارتفاع ألسنة اللهب لحسده المضطرم في أحشائه تخنس عنده المحاكمة العقلية والتعاطي المنطقي وتتخلق غشاوة على بصيرته - فينظر بعين الشانئ - يندفع إثرها حينئذ لإسقاط ما قال به المحسود حتى ولو جاء بلطائف المعاني ودقائق النكات وكان حظه من العلمية متجلياً على نحو ليس بالوسع تجاهله. أحياناً الحاسد نتيجة لاستعار طويته بالحسد يحاول التقليل مما جاء به الآخر، حتى ولو كان لا يفهم ما جاء به ولا تسعفه مداركه العقلية للتناغم مع آفاقه!, اشتعال نار الحسد يطيح بالملكة العقلية - إن كان ثمة وجود لها - على نحو يدفع الحاسد إلى الطعن فيما جاء به غيره، حتى ولو كان لا يملك الخلفية الثقافية عن هذا الموضوع ولا يتصوره بوجه من الوجوه، فذهنه الكليل وفهمه العليل لا يعيقه عن التنفيس العدواني عما يختنق به فؤاده من حسد! الحسد يدفع بصاحبه إلى التمحل في اصطياد العثرات ومحاولة العثور على أي منفذ لإدانة المحسود، حتى ولو كان ذلك الحاسد لا يملك القدرة على إسناد حيثيات طعنه إلى معطيات مدللة!!.
Abdalla_2015@hotmail.com