ودعنا عاما ونستقبل عاما جديدا نبحر فيه بأحلامنا وهمومنا وحسناتنا وسيئاتنا ونفحاتنا وعثراتنا لنواصل مشوار الحياة ونقترب أكثر فأكثر من اليوم الأخير. وفي خضم هذا البحر الهادرة أمواجه الصاخب فضاؤه العاتية رياحه لابد لنا من أن نردم هوة الإخفاق في حياتنا ..
..ونملأها بتراب العزيمة اللاهبة المضطرمة، وأن نمسح بقع الخطايا التي لوثت فضاءنا ونغسلها بماء الهمة الوقادة واليقين الراسخ والارادة القافزة, وأن نقضي على بؤر التوتر في نفوسنا القلقة قضاء مبرما، فلم تزل تلك النفوس تلهث وتلهث في معترك الحياة في صراع قلق مع لقمة العيش وبناء الأمجاد لم تستقر بعد من عناء التيه والتخبط, ولم تهنأ بدوحة الذكر ورياض الطمأنينة.
إن تصرم الزمن وانقضاءه يوما بعد يوم وشهرا بعد شهر وسنة بعد سنة وعقدا بعد عقد وقرنا بعد قرن، واشراق الشمس ومغيبها كل يوم ودورة القمر ودورة الأرض ودورة الأفلاك ليوحي بسرعة انقضاء الأعمار واندراس السنين وذهاب العمر. إن المسلم الحاذق النبيه الموفق هو من يستغل هذا العمر القصير جدا في طاعة الله عز وجل مستيقنا أن الدنيا كلها لاتعدل عند الله جناح بعوضة ولو كانت كذلك ماسقى كافرا منها شربة ماء. إن من يمتلئ قلبه بخشية الله ومخافته وحبه تهون عليه كل مصيبة وكل هم وكل غم وكل نصب وكل حزن لأن الغاية الكبرى التي يرتجيها هي أكبر من هذا المتاع البائس الحقيرالقصير. إن من يقارن بين الرقم واحد والرقم ما لا نهاية ليدرك الفرق الكبير والبون الشاسع بين الرقمين فكذلك هي الدنيا والآخرة. مغبون من يفرط في حياة قصيرة وموسم زراعة قصير ليحصد الهشيم في وقت الحصاد، مغبون من يذهب عمره كله في المتاع القليل الزهيد الحقير ليجني الشوك والعلقم في وقت الحصاد، مغبون من يبيع عمره ساعاته وأيامه في لذة عابرة تذهب لوقتها وتبقى حسرتها. مغبون من تمضي أيامه ولياليه دون أن يقرأ كتاب الله أو يصلي لله ركعتين أو يعمل خيرا أو يعين الناس أو يتصدق أو يعمل طاعة. مغبون من يجعل هذا المتاع الرخيص أكبر همه وجل تفكيره وكأنه ما خلق إلا ليأكل ويشرب ويتلذذ ويتنعم دون وازع من خوف أو خشية أو مراقبة.
في آيات كثيرة في القرآن الكريم يخبرنا الله عز وجل عن الدنيا ويخبرنا عن الآخرة وشتان بين الصورتين، والأحاديث التي رويت عن المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرة هي أيضا, وسيرة الرسول عليه الصلاة و السلام تنطق بزهده في متاع الدنيا وكثرة استعداده ليوم المعاد. استمع إلى قول الله عز وجل: {قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً}. ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}. حقيقة لم نقررها نحن البشر ولكن قررها رب البشر من فوق سبع سماوات ليعلن للدنيا كلها قولا واحدا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أن متاع الدنيا قليل قليل قليل مقارنة بمتاع الآخرة ونعيم الآخرة وأنهار الآخرة وخمر الآخرة وفواكه الآخرة وفراديس الآخرة. ويقول عز وجل في موضع آخر: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}. أي عاقل حكيم يفرط بهذه الصحبة المتميزة مع هؤلاء الرهط الذين هم أكرم رهط. الأمر لا يتطلب عناء كبيرا ولا إجابة عن أسئلة تعجيزية ولا شروطا باهظة, كل ما في الأمر أن تطيع الله ورسوله لتنعم بهذا التميز في هذه الحملة المميزة. إنها اللمسة التي تستجيش مشاعر كل قلب فيه ذرة من خير وفيه بذرة من صلاح وفيه أثارة من التطلع إلى مقام كريم في صحبة كريمة في جوار الله الكريم وهذه الصحبة لهذا الرهط العلوي إنما هي من فضل الله فما يبلغ إنسان بعمله وحده وطاعته وحدها أن ينالها إنما هو الفضل الواسع الغامر الفائض العميم. ويقول عز وجل في آية أخرى:(وإن الدار الآخرة لهي الحيوان). أي الحياة الحقيقية التي يجب أن يحييها الإنسان بما يقدمه في هذا العمر القصير. ويقول عليه الصلاة والسلام: ما لي وللدنيا ما أنا في هذه الدنيا الا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم راح وتركها، ويقول أيضا: الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
لن ألجأ إلى الأسلوب الوعظي التقريري أكثر من ذلك (على أهميته) ففي بطون الكتب غنية وفي مواقع الشبكة كفاية، لكن دعوني أسلط الضوء على ضرورة مراجعة الإنسان نفسه مستصحبا بعض الحقائق التي ستساعده بعد توفيق الله في تلمس الطريق والسير بأمان إلى بر الأمان حتى يسلم أمانته بانقضاء أجله. هناك حقائق لابد من إدراكها في هذه الرحلة القصيرة رحلة الحياة تخضع لعلم الاحتمالات مجهولة أوقاتها ماثلة حقائقها.
أولا: كلا إن الانسان ليطغى، قتل الانسان ما أكفره من أي شيء خلقه؟ من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره. الانسان قد يبتليه الله بالمال فيطغى ويتكبر ويظن أن الحياة لم تخلق إلا له، وقد يبتليه الله بالجاه والسلطان فيرى الناس أقزاما ويرى نفسه القوي المتمكن متناسيا في غمرة هذه السطوة وذلك الجاه أنه خلق من نطفة، وأنه يحمل العذرة وأنه سيكون جيفة قذرة، بل تراه (إلا من رحم ربي) يبارز ويظلم ويبطش ويتكبر، وقس على ذلك من يتولى أمرا من أمور المسلمين صغر أم كبر، فيقضي عمره في مظالم الناس ويقدم على الله برصيد شائن محمل بالخطايا والأوزار لأن حقوق العباد لا تمحوها التوبة وإنما التحلل من العباد أنفسهم. فإياك والطغيان وتذكر أنك مخلوق ضعيف ليس بيدك أجلك ولارزقك ولا صحتك ولا شبابك.
ثانيا: لابد من استصحاب حقيقة نغفل عنها كثيرا وهي الموت الذي لا مفر منه ولا سبيل إلى رده أو تأجيله قضاه الله على العباد كلهم لا فرق بين غني ولا فقير ولا ملك ولا صعلوك. حقيقة من يستصحب الموت ويكثر من ذكره يكن له رادعا في مراقبة الله عز وجل والتقلل من هذه الدنيا، ويزيد المسلم يقينا وإدراكا أنه راحل عنها بخرقة بيضاء لن ينفعه ما جمع من مال أو اغتصب من عقار، لن ينفعه الا ما قدم ليوم الحصاد.
ثالثا: شروق الشمس وغيابها هي أكبر حافز للإنسان أن حياته وقد شرقت فلا تلبث أن تغرب قريبا، فهي تذكرة وتذكير وتحفيز وجرس إنذار أن يراجع الانسان نفسه ويقيم أعماله ويكثر من التوبة النصوح والاستغفار.
رابعا: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بادروا بالأعمال سبعاً هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر)، رواه الترمذي وقال: حديث حسن. علم الاحتمالات والاحصاء ماثل أمامنا في هذا الحديث، فالرسول عليه الصلاة والسلام حثنا على المبادرة بالأعمال الصالحة، وقال للمتقاعسين ماذا تنتظرون؟ الفقر أم الغنى أم المرض أم الهرم أم الموت أم الدجال أم الساعة. كل هذه الاحتمالات واردة وقد يصيب المسلم المفرط أحدها فيفسد عليه آخرته فالبدار البدار.
خامسا: قال عليه الصلاة والسلام: أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل. وفي حديث آخر: إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى) فالحديث يأمر بعدم التشديد على النفس في إلزامها بما لا يلزم، أو تحريم ما أحله الله، ولو شق الإنسان على نفسه في العبادة بما لا يطيقه حتى يملها، كان مثله مثل الراكب فرساً يظل يضربها بشدة لتسير حتى تعيا منه في الطريق وهو - المُنبت - فهو لم يقطع مسافة الطريق، ولا أبقى الظهر الذي يركبه، فنفسك إن شددت عليها ما لا تطيق انقطعت وتعبت وتركت العبادة. فالرفق الرفق فقليل دائم خير من كثير منقطع.
سادسا: كن رقما مفيداً في دنياك. قدم لدينك ما تستطيع. احرص على وقتك فهو حياتك إن مضى مضى جزء منك وأحسن تنظيمه ولا تقطع هذه الرحلة القصيرة بما يبعدك عن الله. ستجد لذة لحياتك لم تعهدها من قبل. وأسأل لله دائما وأبدا الثبات على الدين وحسن الختام، وأكثر من الأعمال الصالحة ما استطعت إلى ذلك سبيلا. واعقد العزم على ألا يمر يوم من أيامك الا وقد عملت فيه خيرا لنفسك أو لغيرك.
سابعا: استصحب الخلق الحسن فهو أكثر ما يدخل الناس الجنة كما قال عليه الصلاة والسلام تقوى الله وحسن الخلق، ولا يكلفك حسن الخلق سوى طلاقة الوجه ولين اللسان، وهو من أجل العبادات وأعظمها عاقبته في الدنيا سعة في الرزق وبركة في العمر ومحبة الخلق وفي الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار. لا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا واتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة وخالق الناس بخلق حسن.
ثامنا: الصدقة الصدقة فهي جالبة الأرزاق دافعة الشرور، والمسح على رأس اليتيم، والإكثار من ذكر الله أدبار الصلوات المكتوبة، فالقلب المكثر من الذكر عامر والقلب المقل دامر، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم وإن الله يؤتي المال من يحب ومن لا يحب ولا يؤتى الإيمان إلا من أحب فإذا أحب الله عبدا أعطاه الإيمان فمن ضن بالمال أن ينفقه وهاب العدو أن يجاهده والليل أن يكابده فليكثرمن قول سبحان الله والحمدلله ولااله إلا الله والله أكبر. فهل بعد هذا الفضل فضل؟ وهل بعد هذا الفضل تقصير؟
akheliwi@kacst.edu.sa