حينما يريد أي كاتب أو محلل أن يتصدى للتحليل النفسي للشخصية العربية اليوم لابد أن يكون التركيز والاهتمام والاندماج مع الأحداث المرعبة المفروضة على الأمة والإنسانية، ألا وهي أحداث الاعتداءات الصهيونية على غزة وما يشاهد ويتابع من أهوال ومحن يشيب من هولها الولدان.
إن ما يتعرض له إخواننا في غزة من أطفال ونساء وعزل وأبرياء وكذلك مصادر رزقهم من حرث وزرع من اعتداءات وقصف هي ليست فقط تدميراً للبنى التحتية المادية لمقومات هذا الشعب، بل هي تدمير وقصف للبنى النفسية وحتى العقلية، ليس فقط لأهلنا في غزة وفلسطين بل وللأمة العربية والإسلامية.
وفي الوقت الذي يصعب على أي ذي حس بشري وإنساني أن يتمالك نفسه إزاء هذه الأحداث، فإننا نجد أن الذين يتعرضون مباشرة لهذه الاعتداءات والقصف من المسلمين أو العرب في فلسطين أو في حدودها لآثار مضاعفة: صدمات نفسية من مفاجآت الرعب، وعدم قدرة عن الدفاع عن النفس، وفقدان الأقارب والأهل والأصدقاء وأبناء الوطن الواحد، وعجز عن توفير الأماكن الآمنة، وعجز عن توفير الحاجات الأساسية للنفس والأهل من مأكل ومشرب ومن علاج وأمان، وخذلان من الأقارب والأهل والأصدقاء القادرين على الدفاع والحماية. أليست هذه أنماطاً جديدة من القصف والتدمير النفسي والعقلي لأهلنا في غزة؟!
نعم إن الشعوب العربية والإسلامية والإنسانية تقدم ما بوسعها من دعم معنوي يساعد في تماسك المنكوبين والمظلومين والمعتدى عليهم من خلال الدعاء والتظاهر وإبداء المشاعر الحزينة وكذلك بعض الدعم المادي المتمثل في التبرع بالدم أو المال وغيرها. ولكن هذه الأنواع من الدعم لا تمنع من إيقاف المعتدي ورد الهجوم أو معاقبة المجرم، مما يزيد من تراكم الشعور بالإحباط والضيق، ما لم يكن هناك حصانة ذاتية غير عادية تعوض هذا الشعب المظلوم، وهي الحصانة الدينية التي تدعو دائماً للتفاؤل والصبر، لأن النصر مع الصبر كما وعد الله سبحانه وتعالى، وكذلك حصانة التعود على الحروب والقصف من الصهاينة المعتدين. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
إذا كانت تلك الانتهاكات من الهجمات البرية والجوية والبحرية تأتي متزامنة مع حصار جائر ومستديم يدمي لها كل جبين ويتألم لها كل ذي حس وضمير، فما بالنا وحالنا لمن هو تحت النار وفي مواجهة الحصار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
إنما أردت أن أسهم بجهد المقل في الإشارة إلى الآثار الحالية والمستقبلية للمتعرضين مباشرة للحصار والنار والحرب من دون أن يكون لهم قدرة متوازنة للدفاع عن أنفسهم بعد تسلط عدو لم يخف الله فيهم وصديق خذلهم. أقول إن تلك الآثار وخاصة النفسية عليهم وعلى من يشعر بشعورهم ويتألم لآلامهم لها خصوصية تشبه آثار المحارق النازية وأسوأ من انتهاكات عصور الظلام والطغيان.
فماذا عسانا نفعل ونحن نشاهد مناظر الجثث والأشلاء للأطفال والنساء والأبرياء والمنازل المهدومة، والمستشفيات المكتظة والصرخات والاستغاثات المؤلمة والمحرقة، والقصف المادي والنفسي الهمجي!!؟؟ حيث يتزامن مع هذه الأحداث والمناظر شعور بالألم والحرقة وبالتعاطف والتوحد مع المعتدى عليهم، بل ويتعدى ذلك إلى رغبة في المساهمة بالتبرع بالدم والمال والرغبة في دفع الظلم.
إن مشاهدة مناظر الاعتداءات الصهيونية بالطائرات والدبابات والبوارج التي تسرح وتمرح وتضرب وتقصف وتدمر بكل غطرسة وحقد وجبروت بلا رحمة وبلا هوادة، ورؤية ومعايشة القصف المتواصل الإرهابي والعدواني، ورؤية الضحايا والأشلاء والركام له تأثيراته السلبية المباشرة والتأثيرات البعيدة المدى على الأطفال وعلى الكبار. وقد أثبتت الدراسات العلمية على مدى واسع أن تعرض الأطفال على وجه الخصوص لمشاهدة أحداث العنف بصورة مكثفة ومؤلمة تترك آثأراً سلبية على شخصيتهم وصحتهم النفسية وتشكل حياتهم حياة غير مستقرة وغير سوية يتولد من خلالها العنف والعدوان. وهذا حال من يشاهدها عبر وسائل الإعلام المختلفة، فما بالنا بمن بعيش تحت وطأتها ويتجرع مرارتها.
إن القصف الهمجي الإسرائيلي بالصواريخ من الطائرات والبوارج على إخواننا في فلسطين يتزامن معه قصف نفسي هز ويهز نفسيات من يشاهدها ويتابعها ويؤدي تبعاً لذلك إلى شعور بالإحباط والتوتر والرغبة في الانتقام، بل إن زيادة القصف يزيد من الشحن النفسي ويؤدي بها إلى التفكك والشعور باليأس في نفوس البعض حين لا يلوح أمل بالانفراج أو تحسن الوضع، وإما إلى تورم في النفوس من الانفعال والشعور السلبي المعنوي إلى فعل وسلوك لفظي وفعلي. ولله عاقبة الأمور.