ظللنا في تحولات حياتنا نحافظ على كل ما من شأنه أن يظهرنا بأننا صامدون في مواقعنا، مسيطرون على كل ممتلكاتنا المعنوية، وصيغنا اللفظية، وأوهامنا الجدلية، وأهمها تلك الشحنات الكبيرة من (المواقف) التي لا نتزحزح عنها حتى وإن ثبت أننا نسير فيها باتجاه خاطئ.
فالخطابات، والرسائل، والشعارات بشكلياتها، ومضامينها، والتوجه العقلي، والفعل وردة الفعل في سيرتنا الحياتية مرهونة دائما بموقف ما يتحتم علينا أن ننبري للدفاع عنه، والاستماتة في إبقائه، لأنه مجرد موقف اتخذناه والسلام، لنظن مع الوقت أنه بات حكما نهائيا، أو مسلمة لا تقبل الدحض، أو حتى مجرد النقاش حولها.
فلا تهم النتيجة طالما أنك اتخذت الموقف بأي حال من الأحوال، فلابد لك إلا أن تواصل تعنتك وتشنجاتك، والاستبسال دون حياض فكرتك مهما كلف الأمر، ولا بأس في ظل هذه الشحناء والحسابات أن تقفز من موقفك هذا إلى موقف أشد فداحة، وأقوى ادعاء بتوصلك إلى قناعات تعزز أنك على حق وغيرك على باطل في أي أمر.
فالمواقف المسبقة - للأسف - هي التي تحدد أبعاد نقاشنا، وفرضيات حواراتنا؛ الفضائي منها والأرضي، وهذه خصلة - كما أسلفنا - نتمتع بها دون غيرنا، وهناك من ظل ينافسنا عليها حتى وهو يعلم أنها إنتاج عربي صميم منذ زمن الهزائم والنكسات والارتكاسات.
فلا يوجد شعب من شعوب العالم يمتلك هذه الخصلة (الموقف)، وليس لأي غربي أو شرقي أو حتى من البحر الكاريبي، وهم أقرب الشعوب إلينا أن يظل متقمصاً بشكل دائم لفكرة الموقف المسبق، أو الموقف الانفعالي، أو الإقصائي ولا سيما حينما يزعم أنها يقينيات لا جدال فيها، أو يعتقد أنها ثوابت لا يجرؤ أحد على تناولها.
وأمر (السينما) هذه الأيام هو الدليل العملي على أننا أصحاب مواقف فمنذ زمن وقفنا بوجه الإذاعة، والبرقية، والتلغراف، وكاميرا التصوير، ومن بعدها التلفزيون، وكل شيء قد يأتي قريباً أو بعد حين سنكون متسلحين ضده بالمواقف المسبقة، متخندقين مع أفكارنا الرافضة له، والمشككة فيه حتى يأتي جديد يلغي ما سلف، ونحن في مواقفنا لم نتغير.
فنزعم أن الخطر قائم من الآتي، والرعب من الجديد يتطور، ومواقفنا لا تتزحزح، فكلما جاءت أي حقيقة تود أن تفرض ذاتها، وتثبت وجودها، فالمواقف المسبقة تعمل مثل حق النقض (الفيتو) الشهير الذي لا يمكن معه أن يتغير أي رأي، أو يسهم في رسم أي معادلة حوارية قد تفضي إلى فهم حضاري جديد.
Hrbda2000@hotmail.com