Al Jazirah NewsPaper Monday  05/01/2009 G Issue 13248
الأثنين 08 محرم 1430   العدد  13248
العدوان على غزة والتشكيك في المقاومة
د. عبدالرحمن الحبيب

 

في ظل القصف العدواني الذي تمارسه إسرائيل ضد غزة، والمأساة الإنسانية الحادة التي يعيشها الفلسطينيون، تزخر الساحة العربية بنقاشات حادة حول هذا الموضوع.. ولكن للأسف فإن كثيراً من الأسئلة تطرح بطريقة خاطئة، أو بالأحرى بتوقيت خاطئ، فينتج عن ذلك اتهامات وإدانات متبادلة بين أطراف النقاش..

والمحزن في تلك الاتهامات المتبادلة والشتائم المقذعة أنها تزيد من حالة التوتر السياسي وحالة الاستقطابات، مما تضعف من الوضع السياسي العربي عموماً والفلسطيني على وجه الخصوص.. ماذا نستفيد من طرف يتهم المقاومين ومناصريهم بالغوغائية واللعب على العواطف والسفه السياسي والمتاجرة بدم الشهداء؛ وبالمقابل ماذا نستفيد من طرف يتهم من اقتنعوا بالحلول السياسية السلمية بالانبطاحية والعمالة والخيانة والتكفير؟ كأننا لا نكتفي بحجم المأساة الإنسانية في غزة، وبحجم الخسائر في الأرواح والممتلكات، بل نضيف لها خسائر سياسية وثقافية، حيث لا تتركز الأسئلة والنقاش في ما هي أفضل السبل لمساعدة غزة؟ وكيفية دعم القضية الفلسطينية في ظل هذا العدوان الإسرائيلي عليها؟ أو ما هي أفضل السبل في مقاومة هذا العدوان؟ أو كيف يمكن دعم وحدة الصف الفلسطيني؟ أو في أفضل الطرق لتوفير المساعدات الإنسانية وجمع التبرعات.. إلخ.

في مثل هذا التوقيت: ماذا سيفيد أو سيضيف التركيز على سؤال حول من هو المتسبب الأول بهذا العدوان؟ وكأن القضية هي صراع طارئ أو عدوان منفرد وليس سلسلة طويلة من أحداث وصراع وجود بدأت باصطناع دولة غريبة وطرد سكانها الأصليين!!

والسؤال بحد ذاته لا غبار عليه، بل على توقيته الذي يمكن أن يأتي قبل أو بعد توقف القصف..

وفي مثل هذا التوقيت: ماذا سيضيف سؤال مشكك بفكرة المجابهة وثقافة المقاومة والناس تحت القصف؟ وهذا يقودنا إلى مفاهيم ثقافة المقاومة، حيث يبسطها البعض باسم الواقعية السياسية (البراجماتية)، إلى حساب مباشر للربح والخسارة، وأيضا كأن القضية سياسية بحتة أو إدارة صراع طارئ أو بسيط وليس قضية وجود واحتلال.. أو يقارنها البعض بحرب إسرائيل على لبنان عام 2006م، بينما كامل فلسطين تخضع عملياً للاحتلال الإسرائيلي.

كل المقاومات التي جابهت المحتل كانت بموازين القوة العسكرية ضعيفة، فلولا تفوق القوة لما كان هناك محتل بالأساس، ولكن لولا المقاومة لما كان هناك تحرر.. ثقافة المقاومة تبدأ من الذات وليس من القوة العسكرية وحساب موازينها.. ففي ذوات الأفراد الذين تهدر أبسط حقوقهم الإنسانية مثل حق بناء دولة في أرضهم، ينشأ الشعور بحق استرداد ما سُلب منهم.

وهذا الحق هو حق شرعي كفلته كل الأنظمة والمواثيق الدولية.. وهو قبل ذلك حق طبيعي في الدفاع عن الأرض التي يمتلكونها، وحق طبيعي في العيش بكرامة تليق بالإنسان كفلته كل القيم الإنسانية.. هذا الحق هو القوة الأولى والأعظم في ثقافة المقاومة.. أولسنا نقول: (لا يضيع حق وراءه مطالب)؟.

بعد هذا الشعور بالحق الطبيعي والشرعي وما يمنحه من قوة ذاتية هائلة، يؤسس الأفراد جماعاتهم المقاوِمة ولتصعد ثقافة المقاومة إلى ميدان المقاومة الفعلية أو المجابهة.. وهذه المجابهة ليست بالضرورة عسكرية، فأكبر استعمار على وجه الأرض - وهو البريطاني - طُرِد من الهند - وهي أكبر مستعمَرة - بمجابهة سلمية.. لكن المواجهة العسكرية تظل حقاً طبيعيا وشرعيا للذين يتعرضون للاحتلال.

عبر تأصيل هذا الحق الطبيعي والشرعي يصبح للمقاومين حق حرية الخيار في أنواع المجابهات المناسبة. وإذا كان يحق لمن يشكك في نوع من أنواع المقاومة، كالذي يشكك في المقاومة السلمية أو الذي يشكك في المقاومة المسلحة، فإن حق التشكيك هذا يحتاج حصافة سياسية في طريقة طرحه وتوقيته.. فليس من الحصافة في ظل القصف العدواني على غزة، أن تروج أفكار مثل الانتحار السياسي أو الغوغائية السياسية للمقاومين.

وعبر الحق الطبيعي والشرعي للمقاومة يصبح سؤال: من هو المتسبب كمن يضع العربة أمام الحصان! لأن السبب الرئيسي هو الاحتلال وأداؤه العدواني. وإذا كانت بعض أساليب المقاومة غير ناجحة، وبعض التكتيكات فاشلة وخلفها إستراتيجيات غير واضحة، فتلك اجتهادات قابلة للنقد في توقيتها المناسب وليس أثناء القصف..

لم ينتصر الفيتناميون في معركتهم العسكرية على أقوى جيش في التاريخ لأنهم أقوى عسكرياً، بل لأنهم أقوى معنوياً.. إنها قوة الحق حين تتفوق على حق القوة.. لأن الفيتنام أصحاب الحق في أرضهم، ولأن الجيش الأمريكي العرمرم جيش احتلال.. إذن هنا المسألة ليست موازين القوة العسكرية فقط، وميزان الربح والخسارة المباشر، بل موازين مركبة على بعضها البعض، تبدأ من فكرة الحق التي تشكل قوة الذات المؤمنة بحقها.. ويتركب على هذه القوة حُسن التنظيم ووحدة الصف المقاوم وقوة العقيدة المقاومة وحنكة العمل السياسي وبراعة الأداء العملي.

وهذا يتطلب أولاً وضوح عمل المقاومة بوضوح فلسفة الفكرة والرؤية وتحديد الأهداف والثوابت والمتغيرات، وتالياً وضوح الإستراتيجيات والخطط البعيدة المدى وتحديد الحلول المناسبة، وانتهاء بالتكتيك والخطط قصيرة المدى والتنفيذ.. فإذا اختلفت الإستراتيجيات بين الفصائل، كما هو حالياً بين فتح وحماس، فينبغي ألا يشتت ذلك وحدة الصف عندما يتعرض فصيل للهجوم من الخصم، لأن الأهداف واحدة.

يمكن القول بأن الإستراتيجية هي فن اختيار الأولويات.. وفي حالتنا هذه تحدد إستراتيجية المقاومة الأداة الرئيسية في حسم الصراع التي تؤمن بها (جيش، ميلشيا، حرب عصابات، عصيان مدني، ثورة شعبية مسلحة، ثورة شعبية مدنية، اتفاقات ومعاهدات دولية.. إلخ). وكما نلاحظ فإن الخلاف الأساسي في الإستراتيجيتين الفتحاوية والحمساوية هو في هذه الإستراتيجية، لأن الفكرة التي تنطلق من كل منهما تختلف من حيث المرتكزات والإيديولوجيا، وتختلف كل منهما في ظروفهما السياسية التي تؤثر في مرونة التصرف وديناميكية العمل السياسي وسهولة أو صعوبة تبديل الخطط خلال مراحل المقاومة.. لكن لأن الأهداف الأساسية واحدة لديهما، فمن النضج السياسي أن تكون هاتان الإستراتيجيتان مكملتين لبعضهما، أو على الأقل أن يتم تجنب المواجهة بينهما قدر الإمكان.

الخلاف السياسي مسألة طبيعية بين الفصائل المختلفة، لكنه ضار في أوقات الصدام المباشر مع العدو المشترك، فكيف إذا زاد المثقفون من حدة هذا الخلاف ووسعوا من نطاقه، وصبوا الزيت على النار، ليتحول إلى تناحر يفرق في وقت المقاومة بأحوج ما تكون إلى وحدة الصف، وسكان غزة في أحوج ما يكونون إلى الدعم المعنوي والمادي.



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد