كان من المفترض عليّ الالتزام بما تقتضيه هذه الزاوية بالاكتفاء بقراءة الأخبار المؤثرة على سوق الأسهم المحلي خلال أسبوع، الآن أن الظرف الزمني بإصدار هذا الملحق مع نهاية تداولات عام 2008 جعلني أتجه إلى صورة كلية تناقش ما هو أبعد من أسبوع. ففي العام المنتهي 2008 فقدت السوق المالية السعودية نسبة كبيرة من قيمتها وصلت إلى 56 في المائة، وبلغت الخسارة من القيمة السوقية 922 مليار ريال سعودي، كثاني أسوأ أداء بين الأسواق الخليجية بعد سوق دبي المالي، وتعتبر الأزمة المالية العالمية السبب الرئيس لسقوط السوق المالية السعودية مع تجيير الكثير من المتعاملين جزءاً من الأسباب لهيئة السوق المالية، ولكن واقع الحال يبرز نفسه بأنّ أزمة العالم المالية التي تحولت إلى اقتصادية، هي في حقيقة الأمر ما أوصل كل الأسواق العالمية لهذه المرحلة التي نعيشها، وإذا ما حللنا قطاعات السوق نجد أن قطاعي البنوك والبتروكيماويات هما من أفقد السوق جزءاً كبيراً من قيمته وكليهما أبرز المتاثرين بالاقتصاد العالمي، فقد خسر قطاع البنوك 55 في المائة من قيمته، بينما خسر قطاع البتروكيماويات 66 في المائة. ومن بين التريليون ريال التي فقدها السوق كان لسابك حصة الأسد فيها، إذ فقدت 400 مليار ريال تقريباً أي ما يعادل 40 في المائة من حجم الخسارة الكلية التي تكبدها السوق، فالأزمة العالمية تسببت بهبوط أسعار المنتجات البتروكيماوية بشكل متسارع في النصف الثاني من العام 2008، حيث بلغت نسبة الانخفاض قرابة 70 في المائة بينما أدى انعدام الثقة بالقطاع المالي العالمي إلى شح التعاملات الائتمانية وضعف الحركة الاستثمارية، مما يعني انخفاض الأرباح المتوقعة للبنوك السعودية مستقبلاً والتأثير النسبي على حركة النشاط الاقتصادي نتيجة التحرك البطيء المتوقع من قِبل البنوك لعمليات الإقراض سواء على صعيد الشركات أو الأفراد تخوفاً من عدم القدرة على السداد، وبالتالي الانزلاق إلى إشكالية تعثر المقترضين، مما قد يؤثر على ملاءة البنوك المالية .. كل هذه العوامل جعلت الشهية للإبقاء على مراكز الاستثمار بهذين القطاعين ضعيفة، ولجأ الكثير من المستثمرين للتخلي عن استثماراتهم بهذين القطاعين من بداية العام، مما تسبب في انهيار السوق، وقد اتضح جلياً في الربع الرابع الذي انتهى الآن حجم الضرر الكبير المتوقع لهذين القطاعين، وأن الأرباح ستكون منخفضة بشكل كبير، فسابك لوحدها تعطي السوق 30 في المائة من أرباحها كل عام نظراً للعلاقة الكبيرة للقطاع البتروكيماوي بالاقتصاد العالمي كونه قطاع تصدير بامتياز. وإذا كانت التوقعات تشير إلى تراجع كبير بأرباح هذا القطاع، فاليوم نسمع عن توقع إفلاس شركات بتروكيماوية عالمية عملاقة كليندون باسيل الأوروبية، مما يوضح حجم الضرر الذي لحق بهذه الصناعة وما يتوقع لها من مستقبل صعب خلال العامين القادمين. ولعبت عوامل أخرى دورها في انهيار السوق كالتضخم الذي تخطى 11 في المائة العام المنتهي، مما يعني صعوبة تحقيق الشركات لعوائد تفوق هذه النسبة، وبالتالي يصبح توجه السيولة للسوق يمر بقناة ضيقة جداً نظراً لقلة الشركات التي يفوق عائدها معدلات التضخم المرتفعة. وفي مثل هذه الحالة فإن المستثمرين يلجأون إلى تخفيض الأسعار حتى يرتفع العائد المستقبلي للسهم، وهذا ما حدث فعلاً حتى رأينا شركات عديدة يفوق عائدها نسبة 10 في المائة مع تراجع معدلات التضخم نتيجة الركود الذي حل بالاقتصاد العالمي. وتقف معدلات التضخم عند مستوى 9.5 في المائة حالياً ويتوقع تراجعها إلى أقل من ذلك هذا العام.
أما ما يخص القرارت التنظيمة من قِبل هيئة السوق فتعتبر في مجملها قرارات استراتيجة باقية ودائمة، وتهدف لرفع الشفافية التي يفتقدها السوق المالي، مما يعني أن أثرها فعلياً في انهيار الأسعار يبقى نفسياً ومحدوداً جداً، فالمستثمر يشتري المستقبل ويبحث عن العائد ومعدلات النمو، والتنظيم سمة رئيسية بكل الأسواق. أما ما يخص طرح عشرات الشركات للاكتتاب فقد شابه بعض التسرع والأخطاء خصوصاً بالشركات الصغيرة، كقطاع التأمين الذي لم ينظم عمله إلى الآن والشركات التي طرحت بعلاوة إصدار اتضح أنها مبالغ فيها وجرف الكثير من السيولة للمضاربة عليها، وفقدت بنهاية المطاف نسباً تفوق 65 في المائة من أعلى أسعار وصلتها، مما كبّد المتعاملين بالسوق خسائر فادحة شلّت حركتهم خلال مراحل الانهيار، ووسع رقعة المضاربة من جهة أخرى. وكانت الهيئة في إصرارها على تسارع طرح الشركات تهدف إلى تعميق السوق من جهة وإلى مساعدة السياسة النقدية بسحب جزء من السيولة المعروضة لتخفيف نسب التضخم دون النظر لمستقبل السوق، وانعكاسات ذلك عليه. وقد بلغ حجم الاكتتابات لعام 2008 ما يقارب 37 مليار ريال، مما جعلنا نحتل المرتبة الثانية عالمياً ولكن يبقى الخلاف على النوع وليس الكم بما تم طرحه من اكتتابات.
ولم تفلح التوقعات بتخصيص ميزانية كبيرة بالمملكة للعام 2009 والتوقعات بتحقيق فائض كبير جداً في تماسك السوق نظراً لقلة الشركات المستفيدة من هذه الميزانية بشكل عام، وضعف تأثيرها على حركة السوق، فقطاع المقاولات الذي يتوقع له الاستفادة الكبرى من الميزانية، يعتبر تمثيله ضعيفاً جداً بالسوق نظراً لعدم وجود كبرى الشركات المعروفة بالمملكة خارج مكونات القطاعات عموماً، كما أن انخفاض أسعار البترول أثر بشكل عام على السوق تخوفاً من العودة لتحقيق عجوزات مستقبلية بالميزانية العامة، وإن كان ذلك التأثير محدوداً كون الممكلة تملك احتياطات مالية ضخمة مما يجعل هذا السبب عديم الأهمية لعدة سنوات على الأقل.
شكل تأخر التعامل مع الأزمة العالمية وعدم الاهتمام بدعم السوق، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، عاملاً مهماً في تسارع السقوط، فبين تباين التصريحات من قبل الجهات المعنية ومحاولتها التقليل من أثر الأزمة العالمية على الاقتصاد باستخدام العامل النفسي بشكل رئيسي، ورؤية المستثمرين لواقع مغاير أثر ذلك على قراراتهم ودفعهم إلى البيع بشكل كبير، كما أن إعلان بعض الشركات المهمة عن تأخر مشاريعها بسبب الأزمة العالمية من انسحاب شركاء أجانب أو توقع التوقف عن التمويل من قبل المؤسسات المالية، كان له أثر سلبي خصوصا أن الجهات المعنية لم تعلن عن خطط إنقاذ واضحة وصريحة لدعم تلك الشركات بخلاف تقاعس مجالس إدارات الشركات بالتواصل مع المستثمرين وإعطائهم المعلومات بشكل متواتر كحق طبيعي مسلّم به.
إن خلاصة القول في ماحدث من انهيار للسوق المالية السعودية، تؤكد بشكل جلي أن السبب الرئيس بلا منازع هو وضع الاقتصاد العالمي المزري والتوقعات بتراجع أرباح الشركات بشكل كبير خلال العام 2009 قد تصل نسبته إلى 35 في المائة، وقد نشاهد أرباح السوق تتمحور حول 60 إلى 65 مليار ريال، بينما يتوقع أن تصل العام 2008 ما يفوق 90 مليار ريال، وبالتالي فإن مكررات الربحية كانت مرتفعة، مما اضطر المستثمرين إلى التحوط بخفض الأسعار والرجوع لمراكزهم عند مستويات منخفضة تلغي عامل المخاطرة بشكل كبير، وهذا ما حصل فعلياً. وإذا كان الكثيرون يعتقدون بفوضى السوق وانه لا يخضع لتحليل، فإن الاستثمار بأي سوق مهما كان حجمه أو وضعه يرتكز في النهاية على أسس وقواعد ثابتة والرجوع للماضي وكيف نمت الأرباح وارتفعت معها الأسعار أبلغ دليل على ذلك.