في مقالة سابقة نُشرت الأسبوع الماضي في الصفحات الاقتصادية تناولنا وبشيء من التفصيل ماهية قرار إعادة شراء الشركة لأسهمها، وأوضحنا الأهداف التي يسعى المديرون التنفيذيون للشركات إلى تحقيقها من وراء ممارسة حق إعادة الشراء، وذكرنا بأن أشهر هذه الأهداف على الإطلاق هو تعزيز قيمة ربحية سهم الشركة لتبدو بحال أفضل من حقيقتها من خلال تخفيض عدد الأسهم المستحقة للتوزيعات النقدية بعد إعادة شرائها، وذكرنا بأن تعزيز السعر السوقي للسهم كهدف إداري لإعادة الشراء لم يكن بأي حال من الأحوال من أولويات مديري الشركات ومجالس إداراتها حينما تبدأ عملية إعادة الشراء.. إذن يجب أن يكون واضحاً أن المديرين التنفيذيين يهدفون إلى تعزيز بند صافي الأرباح وبالتالي تحسين ربحية السهم مما يعني تنامي ثروة ملاك الشركة.
ومن الجدير بالذكر أن ربحية السهم تُعتبر أحد أهم مقاييس الأداء الكلي للشركة كما أن لها أهمية خاصة لأنها تدخل في حساب نسب مالية أخرى تستخدم جميعها في عملية تقييم أداء عمل المديرين التنفيذيين من قبل جمهور المستثمرين ومحللي الأسواق المالية، وهنا يكون مستقبل المدير التنفيذي (والتعويضات والمكافآت السنوية التي يستلمها) على المحك فإما البقاء وإما الإبعاد عن رئاسة الشركة.. وهل يعلم من يطالبون بالسماح للشركات السعودية بإعادة شراء أسهمها أن 70% من الشركات المكونة لمؤشر
S AND P 500 الأمريكي تقوم بزيادة
مشترياتها من أسهمها كلما لاحظت بوادر انخفاض في صافي أرباحها عن معدلات نموها التاريخية لتقديم دعم (وهمي) لنسبة ربحية السهم لتبدو وكأنها تحقق نمواً إيجابياً مستمراً، وليس لتقديم دعم مالي لتعزيز سعر سهم الشركة في السوق من خلال خلق طلب غير حقيقي.. ويعلم المديرون التنفيذيون بأن الأسواق المالية التي تتمتع بكفاءة عالية (السوق السعودي ليس من ضمنها) سوف تتفاعل إيجابياً في حال تحقيق الشركة لنمو إيجابي في ربحية السهم وبشكل يتماشى أو يفوق توقعات المحللين الماليين، وبالتالي حدوث ارتفاع بسيط وقصير الأجل بسعر السهم كرد فعل متوقع لهذه الأخبار الإيجابية.. إذن ارتفاع سعر السهم (وإن كان بسيطاً) ليس هدفاً إدارياً بحد ذاته ولكنه نتيجة لسبب.. وهذا يقودنا لتوقع كيف سيتفاعل سوق الأسهم السعودي مع مثل هذه القرارات ذات التقنية (التمويلية) العالية التي بالتأكيد يعجز الكثير من مديري الشركات السعودية وأعضاء مجالس إداراتها عن فهم الأهداف من وراء اتخاذ قرار إعادة شراء أسهم الشركة، ناهيك عن الإلمام بآلية تطبيقها والنتائج المترتبة عليها.. ولا أقول هنا أنها تستعصي على التطبيق، ولكن يصعب التحكم بها وبنتائجها، فهي تحتاج إلى خبرات مؤهلة تأهيلاً عالياً مالياً ومحاسبياً، وفي ظني أنه لا يوجد إلا عدد محدود من الشركات المحلية التي تمتلك مثل هذه الخبرات العالية التأهيل في مجالها.. إذن في ظل افتقاد الكثير من الشركات المحلية للكفاءات المؤهلة لإدارة مثل هذه القرارات ذات التبعات المالية الكبيرة، وكذلك في ظل المعاناة الدائمة التي تعانيها السوق المالية السعودية فيما يتعلق بدرجة الكفاءة (والتي تكاد تكون معدومة) وبحوكمة الشركات (والتي تطبق بالقطارة) وبالعدالة، ناهيك عن مدى جودة معايير الإفصاح في قوائم الشركات المالية، وبدرجة الشفافية فيما يخص المعلومات الخاصة بالشركات، ولا ننسى طيب الذكر (سجل بناء الأوامر) الذي لا أحد يعرف حتى كتابة هذه السطور كيف يتم من خلاله اختيار علاوة الإصدار قبل إعلانها للجمهور، وغير ذلك كثير، فإنه يستحيل تطبيق قرار إعادة شراء الشركات لأسهمها في سوق يفتقد للكثير من الجوانب التنظيمية والإشرافية والرقابية ويفتقد للحد الأدنى من الأمان الاستثماري ويتميز بسيطرة أساليب المضاربات الشرسة على أغلب تداولاته التي أفقدت السوق ثقة المتداولين فيه بعد أن فقدوا جل مدخراتهم بسبب تعرضهم لابتزاز (مضاربي) مستمر لم يجد من يردعه.
وبناء على ما تم تفصيله هنا فإنني على يقين أن من يدفعون في اتجاه منح الشركات حق إعادة شراء أسهمها ويطلبون من الجهات ذات و(غير ذات) العلاقة السماح للشركات المحلية بممارسة هذا الحق هم ممن يسعون لتحقيق مكاسب يجنون من ورائها ليس مئات الملايين بل المليارات من الريالات من خلال (استغلال) عملية صنع قرار إعادة الشراء داخل الشركات المحلية و(إيهام) المتداولين بقرب حدوث طفرة كبيرة في سعر سهم الشركة بمجرد أن تبدأ الشركة بعملية إعادة الشراء لجزء من أسهمها، حيث يقوم هؤلاء ال(insiders) وبطريقة استباقية بشراء كميات كبيرة من سهم الشركة المستهدف بقرار إعادة الشراء قبل أن تقوم الشركة المعنية بالإعلان عن نيتها القيام بعملية إعادة شراء نسبة معينة من أسهمها من خلال السوق، ومن ثم يقوم هؤلاء ال(insiders) بعملية (نفخ) وهمي لسعر سهم الشركة حالما تبدأ الشركة فعلياً بعملية الشراء حتى يصل السعر إلى مستويات سعرية تم تحديدها مسبقاً يبدأ عندها هؤلاء بتنفيذ إستراتيجياتهم بكل هدوء بتفريغ ملايين الأسهم من محافظهم وتصريفها على المخدوعين بالارتفاع الوهمي لسعر السهم الذي سرعان ما ينتكس إلى مستويات دنيا وأقل بكثير من مستوياته السابقة لاتخاذ قرار الشراء بفعل التصريف الكبير الذي يقوم به ال(insiders).. وبالتالي فإن ما يحدث هو مجرد (خدعة) كبيرة لا أكثر، فلا وجود لأية قيمة مضافة للشركة أو للاقتصاد الوطني من وراء مثل هذه القرارات.. والتعبير الشائع في الأسواق المالية لوصف مثل هذه العملية هو النفخ والإغراق (Pump and Dump) أي استغلال قرار إعادة الشراء لرفع سعر السهم إلى مستويات قياسية ومن ثم إغراق السوق بكميات هائلة من الأسهم قبل أن يبدأ سعر السهم بالتدهور.
وختاماً قد يقول قائل إن عملية إعادة الشراء قد لا تتم من خلال السوق مباشرة (من خلال صفقات خاصة مثلاً) فأقول نعم، هناك خمس طرق مختلفة لتنفيذ عملية إعادة الشراء ولكنها جميعاً تؤدي إلى نفس النتائج التي تم تفصيلها في هذا المقال في ظل وجود فئة تستأثر بالمعلومة دون غيرها ولا تتوانى في استغلالها أشد الاستغلال، فالعلة لا تكمن في آلية التنفيذ ولكن الخلل يكمن في طبيعة السوق المالية السعودية التي لا تناسب -على الأقل حالياً-مثل هذه القرارات المتطورة.. وأذكركم بأن السوق المالية السعودية لا تزال تنزف منذ ثلاث سنوات ولا تحتاج إلى قرارات (ارتجالية) تزيد نزيفها.
وأخيراً، هناك خطط فعَّالة كثيرة لمساعدة السوق وانتشاله من الحلقة الفارغة التي يدور داخلها بخلاف العمليات التجميلية التي تقبح وجه السوق كقرار السماح للشركات المحلية بإعادة شراء أسهمها التي أوضحنا عدم ملاءمتها للسوق السعودي، ولكن من يعلق الجرس؟...
أستاذ العلوم الاقتصادية والمالية المشارك بجامعة الملك سعود
alhosaan@gmail.com