الصرف واحد من علوم اللسان العربي له أهمية قصوى في الدرس اللغوي، وقد يسميه (البعض) علم التصريف، وفضَّل المتأخرون منذ عصر ابن مالك المتوفى 672هـ التعبير الأول مراعين أنه الأصل وأنه أخصر من (التصريف) وموازن (للنحو)، وهو اللفظ الشائع اليوم، أما المتقدمون فقد رأينا الخليل بن أحمد الفراهيدي أو الفرهودي المتوفى 175هـ وتلميذه سيبوبه المتوفى 180هـ لا يسميان هذا العلم (التصريف) ولا (الصرف) لأن مسائله كانت عندهما داخلة في علم النحو، أما من جاء بعدهما حتى زمن ابن مالك فقد سمَّوه على الغالب (التصريف). |
والصرف في الاصطلاح (علم بأصول - أي بقواعد - تُعرف بها أحوال أبنية الكلمة المفردة التي ليست بإعراب أو بناء). |
ولا يمكن فهم كثير من مسائل الصرف بدون دراسة الأصوات وبخاصة في موضوع (الإبدال والإعلال)، كما أن عددا كبيرا من مسائل النحو لا يمكن فهمه إلا بعد دراسة علم الصرف، لأن الصرف يشكل مقدمة ضرورية لدراسة النحو، فالأمر إذاً يقتضي أن يكون علم الصرف مقدما على علم النحو لأنه يبحث عن ذات المفرد والنحو يبحث عن صفة المركب، والمفرد والذات قبل المركّب والصفة، وهما في الوقت نفسه متلازمان لما لوحظ من أن علماء العربية القدماء لم يكونوا يفصلون بينهما في مصنفاتهم كما هو مشاهد في كتاب سيبويه على سبيل المثال. |
ولقد كان علم الأصوات في التراث التقليدي جزءا من علم الصرف الذي قامت بعض أبوابه على المنهج الصوتي مما يعني أن مباحث الصرف التقليدية أفادت إلى حد بعيد من الدراسات الصوتية، وقد صنَّف باحثون عرب معاصرون أبحاثاً صرفية أقاموها على أساس علم الأصوات، ومن هؤلاء الدكتور إبراهيم أنيس في كتابيه (الأصوات اللغوية) و(في اللهجات العربية) والدكتور تمّام حسان في كتابيه (اللغة العربية - مبناها ومعناها) و(مناهج البحث في اللغة) والدكتور كمال بشر في كتابيه (دراسات في علم اللغة) و(علم اللغة العام) والدكتور عبدالصبور شاهين في كتابه (المنهج الصوتي للبنية العربية) والدكتور عبدالرحمن أيوب في كتابه (أصوات اللغة) والدكتور رمضان عبدالتواب في كتابه (فصول في فقه العربية) والدكتور أحمد مختار عمر في كتابه (دراسة الصوت اللغوي) والدكتور محمود السعران في كتابه (علم اللغة) والدكتور عبدالعزيز مطر في كتابه (القراءات القرآنية في ضوء علم اللغة الحديث) والدكتور محمود فهمي حجازي في كتابه (مدخل إلى علم اللغة) والدكتور عبده الراجحي في كتابه (اللهجات العربية في القراءات القرآنية). |
وموضوع علم الصرف هو الألفاظ العربية من حيث الصحة والإعلال والأصالة والزيادة، والأفعال المتصرفة والأسماء المعربة من حيث البحث عن كيفية اشتقاقهما لإفادة المعاني الطارئة فيجري التصريف على هذه الأفعال بتغيير بنيتها فيقال مثلاً: اسم الفاعل من الفعل الثلاثي بزنة فاعل واسم التفضيل بزنة أفعل واسم الهيئة بزنة فِعلَة إلى غير ذلك، ويجري التصريف على الأسماء المعربة بالتثنية والجمع والتصغير والنسب، أما الأسماء المبنية نحو (مَن وكيفَ وأينَ) فلا يدخلها التصريف، ولا يردُ على هذا تصغير ذا الإشارية والذي والتي الموصولتين، ولا تثنية هذه الأسماء وجمعها لأن ذلك خارج عن القياس فهو نادر أو قليل شاذاً أو هو صوري لا حقيقي، وأما الأفعال الجامدة كعسى وليس ونِعمَ وبئس والحروف مثل مِن وفي وإلى وعلى فلا يعتورها التصريف حال (الإفراد) فهي كالأسماء المبنية ثابتة لا تتغير أبنيتها وتلازم صورة واحدة، أما في حال (التركيب) فإنه يعتريها، فقد تُقلب الألف في الحرف ياءً مع الضمير مثل (إليك وعليك) وقد تحذف عين الفعل الجامد أو لامُهُ عند الإسناد للتخلص من التقاء الساكنين نحو (لستَ وعَسَت) وهذا كله شاذّ يوقف عندما سُمِعَ منه. |
وقد عُني العلماء بالصرف كثيراً فقد كانوا يعدون الخطأ في المفردات عيباً يخل بالكلام ويتنافى مع فصاحة المفرد ويبطل بلاغة القول المركب، وفي ذلك يقول أبو الأسود الدّؤلي: |
ولا أقول لِقدْرِ القوم قد (غَلِيَتْ) |
ولا أقول لباب الدار (مَغلوق) |
وتتمثل فائدة علم (الصرف) في صون القلم واللسان عن الخطأ في صوغ المفردات وفي النطق بها طبقاً لما نطقت به العرب وفي معرفة قواعد هذا العلم الكلية وضوابطه الجامعة التي تؤلف بين أشتات اللغة وتلم شعثها وتقرّب الشقة على الدارس وتغنيه بعض الغناء عن البحث في المعاجم، وتتمثل أيضاً في الاستعانة بهذا العلم على تحويل الكلمة إلى أبنية مختلفة لاختلاف المعاني كالتصغير والنسب والتكسير واسمي الفاعل والمفعول والتثنية والجمع وإسناد الأفعال إلى الضمائر، وفي التوسع في الأساليب العربية كاستعمال (يُحبب ويحبّ) و(يَردُد ويَرُدّ) خاصة في الشعر بمناسبة الأوزان المختلفة. |
وقد عبر (نقره كار) في مقدمة شرحه شافية ابن الحاجب أحسن تعبير عن فائدة علم الصرف وأبان أهميته بعبارة جلية حين قال (إن من أراد أن يكون له منحة من الكتاب الإلهي والكلام النبوي فليصرف عنان همته إلى علم الصرف فيجعله نصب الطرف مشمراً عن ساق الجد ليغوص في تيار بحار الكتاب وفرائده ويتفحص لطائف الكلام النبوي وفوائده، فإن من اتقى الله في تنزيله وأجال النظر في تعاطي تأويله وطلب أن تكمل له ديانته وأن تصح له صلاته وقراءته وهو غير عالم بهذا العلم فقد ركب عمياء وخَبَط خبْط عشواء، إذ به تنحلّ العويصات الأبية وتعرف سعة اللغة العربية). |
وأكد هذا المعنى أخيراً الشيخ أحمد الحملاوي في كتابه (شذا العرف في فن الصرف) فقال: (وبعد: فما انتظم عقد علم إلا والصرف واسطته ولا ارتفع منارة إلا وهو قاعدته، إذ هو إحدى دعائم الأدب وبه تعرف سعة كلام العرب وتنجلي فرائد مفردات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية). |
وأعقبه الشيخ محمد الطنطاوي في كتابه (تصريف الأسماء) فقال: (إن علم الصرف رفيع المكانة سني المنزلة لا يستغني عنه دارس اللغة العربية ولا يثقف بدونه المشغوف بآدابها، يقفه على كنه الكلمة مفردة وحقيقتها مزيدة ومجردة ويمده بزاد من المعارف موفور بقية العثار في المنظوم والمنثور، إذ لا فصاحة في الكلام إلا بسلامة كلماته التي يحاك منها نسيجه وتزدهر بمحاسنها حلته). |
وكانت العرب تنطق نطقاً صحيحاً على سجيتها في الجاهلية وصدر الإسلام، ولما فشا الفساد في التعبير بسبب ما أدى إليه انتشار الإسلام من اجتماع الألسنة المتفرقة واللغات المختلفة فيه انصرفت الهمم أولاً لوضع قواعد النحو لدفع هذا الفساد بضبط حركات الإعراب والبناء، وبقي الخطأ واللحن شائعين في صوغ كثير من المفردات فاحتيج عندئذ إلى وضع قواعد أخرى لضبط أبنية الكلم ومعرفة أحوالها غير الإعراب والبناء، وتلك القواعد هي علم الصرف. |
وقد ذكرت الروايات بعض ظواهر اللحن في الكلمات سواء كان لحن علماء أو لحن عامة، فقد روي أن نبطيًّا سئل لم ابتعت هذه الأتان؟ فأجاب (أركبها وتَلَد لي) بفتح اللام المكسورة، وروي أن الكسائي جاء يوماً وقد مشى حتى أعيا فجلس إلى قوم لديهم علم وقال: (قد عييت) فقالوا له: تجالسنا وأنت تلحن، فقال لهم: كيف لحنت؟ فقالوا له: إن كنت أردت من التعب فقل (أعييت) وإن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل (عييت). |
وكان الصرف في طور نشوئه مندمجاً في النحو واللغة والأدب تحت اسم (علم العربية) ثم أطلق عليه وعلى النحو (علم النحو)، وقد ظهر ذلك جلياً في كتاب سيبويه، وحذا من جاء بعد سيبويه من المتقدمين حذوه فعرفوا النحو بأنه (علم تعرف به أحوال الكلم العربية إفراداً وتركيباً) وهذا التعريف كما هو واضح يشمل النحو والصرف، ثم أصبح الأول بعدهم علم الصرف وأصبح الآخر علم النحو. ولا شك في أن وجود النحو والصرف معاً في كتاب سيبويه يدل على أنهما كما يقول الشيخ عبدالحميد عنتر في كتابه (تصريف الأفعال) (صنوان نبتا في أصل واحد وأطلق عليهما اسم واحد وجمعهما التأليف في كتاب واحد). |
ولقد بقي لما حواه الكتاب من مسائل الصرف بالذات تأثير كبير امتد عبر زمان طويل، فقد عد المازني كتاب سيبويه المنبع الأول لعلم الصرف، واعتمد على ما فيه من مسائله كثيراً عندما وضع كتابه (التصريف)، كذلك فعل أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني فيما جمعاه من قواعد الصرف وأصوله سواء كان ذلك في شرح أبي علي وابن جني (تصريف) المازني أم في كتاب ابن جني (التصريف الملوكي) أم في (خصائصه)، ولم يضف من جاء بعدهما إلى مباحث الصرف شيئاً ذا قيمة كبيرة، وكل ما فعلوه هو جمع قواعد الصرف وأمثلته المتناثرة في (الكتاب) خاصة وتبويبها وتهذيب مسائلها والتعليق عليها فكان للصرف جزء مهم في (مفصَّل) الزمخشري المتوفى سنة 538هـ جرى في عرضه على نهج سيبويه في كتابه فخرج الصرف بالنحو مثله، وكان له أيضاً جزء مهم في كتب ابن مالك الذي وضع مباحثه في أكثر كتبه بعد المباحث النحوية، ولم يخرج الصرفيون التالون عن هذا المنهج واقتصروا على شرح مسألة غامضة أو مثال أو جملة أو زيادة في التمثيل والشرح، فنشأت من ذلك شروح كثيرة منها (شرح المفصل) لابن يعيش، وشرح رضي الدين الاستراباذي على (الشافية)، وشرح نقره كار على (الشافية) أيضا، وشرح أبي حيان الأندلسي على (التسهيل) لابن مالك، وشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك. |
ومع أن هؤلاء المصنفين رتبوا مسائل الصرف وبوبوها إلا أن روح كتاب سيبويه لم تفارق مصنفاتهم وبقي (الكتاب) المصدر الأول لجميع الدراسات الصرفية التالية. |
أستاذ سابق في الجامعة |
|