في مقال سابق تحدثت عن واقع المسئولية الشخصية والاجتماعية لدى الشباب السعودي وسبل تنميتها، وقد جاء في المقال السابق ضرورة وجود مستوى من الضمير الاجتماعي لدى كل فرد من أفراد المجتمع .
يراقب من خلاله تصرفاته واتجاهات وأفعاله، لكي تستقيم أمور الحياة في المجتمع حتى لا ينحرف المجتمع عن إنسانيته وقانونيته ومعاييره ونظامه، ثم جاء المقال على تعريف المسئولية الشخصية الاجتماعية باعتبارها تمثل متصلاً يبدأ من المسئولية الشخصية الفردية أي مسئولية الفرد نحو نفسه ثم تتدرج إلى مسئولية الفرد نحو أسرته والمدينة والوطن، إلى المسئولية العالمية وعمارة الأرض والاهتمام بالحيوان والكائنات الحية، وقد تمت الإشارة إلى أنّ هناك بعض المؤشرات على انخفاض مستوى المسئولية الاجتماعية والوطنية، ليس لدى الشباب فقط، بل والكثير من أفراد المجتمع في نواح كثيرة، ومنها المحافظة على النظام العام في الشارع وفي غيره، مثل ارتكاب المخالفات المرورية والتعدي على الحقوق العامة أو التعدي على حقوق المجتمع، وارتكاب أعمال عنف أو عدوان على الأقارب في الأسرة وفي الشارع وفي المجتمع بعامة، وكذلك الإحجام عن كثير من أعمال الخير أو المساهمة فيها، مثل إماطة الأذى عن الطريق أو التبليغ عن حوادث، أو أعمال منافية لقيم المجتمع أو مخالفة للشرع أو للوطن.
وفي محيط علم الكاتب، نسمع أحياناً عن تستر بعض الموطنين شباباً أو غيرهم على عمالات مخالفة، أو تهريب عمالات مخالفة، وهذه أعمال تنم عن ضعف في مستوى الضمير والمسئولية الاجتماعية والوطنية، كما أنّ استغلال الضعفاء والجهلة والمحتاجين في الأسهم، أو في استثمار الأموال أو في المشاركة في أعمال هدامة، ليقيم المجتمع وأخلاقياته، أو تبني أفكار تهدم ولا تبني، هي من أعمال الإخلال بالمسئولية الوطنية والاجتماعية، قبل أن تكون من الأعمال الجنائية أو الإجرامية.
وإن الاستهتار بالسلوك العام في الأماكن العامة، يظهر مثلاً في الدوائر الحكومية والمدارس والجامعات والمطارات وساحات الحرمين والملاعب وغيرها، حين المجاهرة بالتدخين في جمع الناس المحتشدة، هو دليل على ضعف مستوى المسئولية الاجتماعية والوطنية، وعدم المبالاة بما يشعر به الآخرون، أو ما يسببه سلوكهم من أذى نفسي ومادي للآخرين، ونمط آخر من ضعف الضمير أو الوازع الأخلاقي، الغش في الاختبارات أو في المعاملات، هو نمط آخر من ضعف الضمير الاجتماعي والمسئولية الاجتماعية، ورمي الفضلات أو القاذورات أو المهملات في غير أماكنها أو تخطي الدور، حيث يكون هناك نظام وترتيب، والرغبة في السبق في قضاء الحاجات أو المصالح، هي جزء من السلوك المنبوذ وغير المرغوب. وغير ذلك من السلوكيات والأفعال التي لو تعمدت رصد أمثله منها وحصرها، لأعياني الوقت والمساحة، وهي بلاشك مكروهة دينياً واجتماعياً وحضارياً، وبكل أسف نجد أننا في المقارنة بالعديد من البشر الذين يسكنون في المجتمعات التي تسمى بالمتحضرة أو المتقدمة، لا نلحظ الكثير من السلوكيات والأفعال السابقة، وربما سميت بمتحضرة، لأنّ الناس فيها يتّسمون بسمات اجتماعية وسلوكية في تفاعلاتهم، تشكل لنا أفعالاً مثالية نتمناها، ونحض عليها في أقوالنا وخطبنا ودروسنا في مدارسنا ومساجدنا وجامعاتنا وإعلامنا.
وعلى ذلك فإننا نحتاج إلى نهضة وبناء حقيقي لسلوكاتنا وأفعالنا في مجتمعاتنا، فإن بناء الطرق والكباري وناطحات السحاب والمدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز التجارية، لا تكفي لأن تنهض بالدول والشعوب، بل هي جانب أو وجه واحد من وجوه التطور والتحضر، ولكن الوجه والمقياس الحقيقي في هذه المعادلة، هو النهوض بتربية الإنسان وسلوكه الاجتماعي، وتنمية ضميره الشخصي والاجتماعي، نحو نفسه ونحو وطنه وأمته.
إن المشروع الحقيقي الذي يجب أن تتبنّاه الدول حكومات وشعوباً، وخاصة في دولنا النامية، هو كيف نحسن وننمّي ونرتقي بسلوكاتنا أفراداً وجماعات، وكيف ننمي الضمير والمسئولية الاجتماعية والوطنية لدى الشباب الذين هم عدّة المجتمع وعتاده، وحاضره ومستقبله؟
لقد تناول المقال السابق في جزء منه دور التربية التي تتمثل في رأس أركانها المدرسة، ما يمكن أن يكون حجر الزاوية في مشروع النهوض بمستوى المسئولية لدى التلاميذ والطلاب على مختلف مستوياتهم، وذلك في ضوء خطة استراتيجية منبعثة من سياسة تعليمية، تعنى وتهتم بفلسفة مشروع السلوك والضمير والخلق والوعي الاجتماعي والوطني، ويمكن تحديد أبعاد وعناصر تنفيذ المشروع على مراحل، حيث تشمل تضمين المناهج والأنشطة الصفية واللاصفية لهذه القيم وهذه الأهداف، وترجمتها في آليات قابلة للقياس والمتابعة بصدق، وذلك تطبيقاً للحكمة المشهورة (إنّ وراء كلّ أُمّة عظيمة تربية عظيمة).
إنّ الطالب والمدرس والمدير والموجِّه والمرشد، الذين يشكِّلون العناصر الفاعلة في العملية التعليمية، وفي تنفيذ الأهداف والمناهج، يستطيعون أن يجعلوا من البيئة المدرسية مكاناً مصغراً مثالياً للعمل المبدع والخلاّق، ليس فقط فيما يتعلق بالتحصيل الدراسي، ولكن في إظهار السلوك المسئول المتمثل في احترام النظام والتعاون والصدق مع الذات ومع الآخرين، والتضحية والإيثار والإخلاص، وإبداء المواطنة الحقة، ومن الأنشطة المختلفة التي تحدث في المدرسة أو خارجها، يمكن إدماج وإشراك كل أو أكبر عدد ممكن من الطلاب، وأركان العملية التعليمية في هذه البرامج، وجعلها فاعلة لتكون منطلقاً ونموذجاً للمجتمع، وهذا لعمري من أجلّ وأسمى المشاريع التي ينبغي أن نحرص عليها وأن نجعلها من أولوياتنا التربوية.
ولكن هذ ه الطموحات، لا تقتضي تحميل المدرسة عبء الإصلاح والنهضة في المجتمع لوحدها، فهو أمر ليس بالسهل ولا المنطقي، فلا بدّ لإنجاح هذا المشروع من استكمال عناصر النجاح داخل المنظومة المجتمعية الكاملة، والتي تشمل المسجد والجامعة والإعلام، وباقي مؤسسات المجتمع الرسمي والشعبي، فلا يمكن أن نتصور مجتمعاً مثالياً يشبه المدينة الفاضلة لأفلاطون، في غياب وسائل ردع رسمي، فما لا ينزع بالقرآن ينزع بالسلطان، لأنّ الناس مهما علت وارتقت ضمائرهم ومراقبتهم لأنفسهم، لا بدّ أن يعوا بأنّ هناك متابعة ومحاسبة من المشرع كذلك القانون.
أما الجامعات ومؤسسات التعليم العالي، فهي بمثابة امتداد للمدارس في تيسير وتحسين برامج المسئولية الاجتماعية والوطنية، في المحاضرات والندوات والأنشطة المختلفة، المتمثلة في الرحلات والزيارات والمعارض ونشاطات الجوالة، حيث يمكن أن تزخر بمثل هذه الاهتمامات، وتجعلها ضمن أولويات إنجازاتها، ولكنها لن تؤتي ثمارها من غير أن تكون قابلة للقياس والتحقيق. أما المسجد الذي يتردد عليه كل مسلم خمس مرات في اليوم، ويحتشد أبناء الحي في جامعهم كل جمعة وعيد، وفي كل المناسبات الدينية، فهو أيضاً قادر على المساهمة النظرية والعملية في تنمية الضمير الاجتماعي والوطني، بحكم السلطة الروحية الذي يتمتع بها المكان والإمام بين المصلين والمترددين عليه.
أما الإعلام، وخاصة الرسمي منه بكل أنواعه وأبعاده، فهو من أنجع وأكثر الأدوات والوكالات تأثيراً على الرأي العام واتجاهات وسلوكاته، بل يكاد اليوم وفي ظل سيطرة هذه الوسائل، وخاصة التلفاز منها، على عقول وقلوب المشاهدين، وقضائهم أمامها أوقاتاً هائلة وخطيرة، فكيف لو خصصنا جزءاً منها سواء في تمثيليات أو مسلسلات أو ندوات أو مشاهد أو رسائل، للمساهمة في الهدف السامي في تنمية المسئولية الاجتماعية والوطنية للشباب ولبقية أفراد المجتمع.
إنّ الحديث عن دور كل وسيلة أو عامل من العوامل المختلفة السابقة في تنمية المسئولية الاجتماعية والوطنية، تحتاج إلى إفراد مقال أو عدة مقالات منفصلة، ولكنها مجرد إيماءات أو إشارات عما يمكن أن تقوم به كل وسيلة وأهميتها في المشروع الكبير للارتقاء بسلوكات أفراد المجتمع وبخاصة الشباب، يتواكب ذلك مع النهضة والتقدم المادي. وأود أن أضيف قبل نهاية المطاف جمعيات ومراكز الأحياء التي انتشرت ولله الحمد في مناطق كثيرة من المملكة، وعلى وجه الخصوص في منطقة مكة المكرمة والمدينة المنورة، وما لها من دور اجتماعي ووطني في رعاية وتنمية القيم الاجتماعية والوطنية، من خلال برامجها ونشاطاتها المختلفة ورسالتها، التي جاءت نتائج كثير منها لصالح الهدف العام للمجتمع.
وختاماً لعل القارئ الكريم يتساءل، بعد هذا الطرح التفاؤلي، عن تنمية المسئولية الاجتماعية والوطنية ... من المسئول عن القيام بمهمة وضع الاستراتيجية لهذا المشروع العظيم؟ ومن يقوم بتوزيع الأدوار؟ ومن يتابع ويقيم نتائج هذا المشروع التنموي والتنويري؟
إنني أرى أنّ مشروعاً كهذا، سوف يستغرق وقتاً وجهداً ومالاً وتعاوناً من جهات عديدة، مبتدءاً بوزارة التربية والتعليم العالي، إلى وزارة الشئون الإسلامية والإعلام والداخلية والشئون الاجتماعية وغيرها، ولكن الجهة الأساسية التي يمكن أن ترعى وتنمي هذا المشروع وتقوم بالمتابعة والتقييم لهذا المشروع في بلادنا، هي في نظري مجلس الشورى، باعتباره يؤدي رسالة هامة للبلد، وباعتبارها وعاءً شاملاً يختزل تمثيل المجتمع بأعضائه وبرسالته وبإمكانياته، وعسى أن يجد هذا المقترح من يناقشه ويضيف لما سبق طرحه.
فكما تم وضع خطط خمسية للتنمية لتطوير المجتمع، وبناء البنية التحتية المادية والبشرية على مدى الأربعين سنة الماضية، فإنني أرى أنّ الحاجة إلى خطط للتنمية الحضارية والتوعوية للشاب وللإنسان على أرض هذا البلد، لا تقل أهمية عن مثل الخطط السابقة، ولكن علينا أن نبدأ.
للتعليق أو التواصل مع الكاتب البريد الإلكتروني : zozmsh@hotmail.com