المحفل الكبير واللقاء العظيم والتجمع المهول (يوم عرفة) يوم الحج الأكبر يعتبر فرصة مواتية لمن تتاح له فرصة مخاطبة ذلك الجمع، ومن خلال وسائل الإعلام يتجاوز مدى الخطاب المكان الجغرافي المحدد إلى فضاء أوسع وأرحب، في آفاق المعمورة وجوانب الكوكب.
أما الطرح لفضيلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ، مفتي عام المملكة العربية السعودية وخطيب يوم عرفة، فلقد كان شمولياً موسعاً للدائرة فكراً مفصلاً للتناول شرعاً.
خطاب موجه للمسلمين أساساً ولكافة سكان المعمورة بمختلف معتقداتهم وأطيافهم الاجتماعية والاقتصادية وتوجهاتهم السياسية.
بدأ المفتي بالتذكير بأسس العقيدة والمتمثلة في تحقيق التوحيد وإحسان الأعمال وشكر النعم وإقامة حدود الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطاعة ولاة الأمر، وهذه الأمور تكفل التمكين في الأرض واستقرار الأمن فيها. أما محصلة الأمن ومكتسباته فمتعددة وعظيمة وما يترتب على فقدانه من أمور ترتبط بأحوال الناس من عامة ومن خاصة ومن فرد وجماعة.
ولقد تناول فضيلة الشيخ أنواع الأمن وصنفها في عشرة أنواع، مؤكداً مفهوم الأمن في الشريعة الإسلامية، المفهوم الشامل العائد بالنفع للبشرية في دينها ودنياها، أمن عام في الجوانب المادية والمعنوية. وكأني به وضع منهجاً علمياً يستحق أن يحتذى، وسأتتبع هذه المناحي الأمنية حسب ورودها في الخطبة.
يأتي في المقدمة الأمن العقدي، ولقد عرفه الشيخ بأنه يتمثل في المحافظة على الشريعة المتحققة بتوحيد الله سبحانه وتعالى واتباع أوامره واجتناب نواهيه. الأمن النفسي وهو إصلاح النفس وإزالة القلق عنها، وهذا الأمن له علاقة وطيدة بالأمن العقدي، إذ إن الإيمان بالله يحقق للنفس طمأنينة وراحة، وأشار إلى أن النبي المصطفى عندما يأمر مؤذنه بالإقامة يقول: (أرحنا يا بلال بالصلاة).
والأمن الأخلاقي الذي يتمثل في تربية المجتمع على الأخلاق الفاضلة والقيم السامية والعفة والحياء والبعد عن الأخلاق السيئة. وهنالك الأمن الأسري والاجتماعي ويشمل العناية بالأسرة وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الفقراء وإكرام الجار والضيف. أما الأمن السياسي فيشمل المحافظة على وحدة الأمة وجمع كلمتها وتوحيد صفها والوقوف سداً منيعاً أمام من يخل بأمنها أو المساس بمكتسباتها والالتفاف حول القيادة والحذر من أعدائها.
ويرتبط بذلك جانب آخر من الأمن ألا وهو الأمن الاقتصادي، ويذكر الشيخ أن الإسلام وضع أسساً عادلة بعيدة عن الربا والظلم، والاقتصاد مرتبط بالشريعة التي فرضت الزكاة وحددت النفقات وحرمت الربا وأكل أموال الناس، ونهت عن كل بيع لم يحدد عينه حماية للمجتمع. وما الانهيارات الاقتصادية العالمية إلا بسبب عدم اتباع الناس لأصول الشريعة، والله يمحق الربا ويربي الصدقات. ولو قيل للناس إن الربا حرام لضجوا، وما إفلاس الشركات والبنوك إلا نتيجة لمخالفة شريعة الله.
والأمن الفكري على جانب كبير من الأهمية إذ به تحفظ أفكار المسلمين عن الانحرافات والتطرف أو الإفراط والغلو ويتوجه عن طريقه نحو الوسطية التي جاء بها الإسلام وحث عليها، أمن للعقول التي من الضرورة المحافظة عليها. والأمن الإعلامي مطلوب في عصر يشهد ثورات تقنية مذهلة، كما يشهد تطورات متسارعة في البث الفضائي وبطرق متعددة أخرى، نتج عن بعضها، إن لم يكن غالبها، (إرهاب إلكتروني) ينشر الرذيلة والأفكار الهدّامة.
وأشار الشيخ إلى الأمن البيئي، ذلك الأمن الذي تقام له الدنيا ولا تقعد، في أماكن متعددة من العالم، حماية البيئة ومكوناتها والمنافع العامة ومصادرها وحماية الثروة المائية، على وجه خاص، التي هي حماية للمجتمع. وهناك الأمن الصحي ويدخل في ذلك منع توطن الأوبئة والحجر الصحي وعلاج الأمراض بعد وجودها، وتأتي الوقاية الصحية على رأس الأولويات في مجال الأمن الصحي. أما المجال العاشر من أنواع الأمن فينحصر في أمن الطرق والمسالك البرية والجوية والبحرية، تلكم الأخيرة التي شهدت وتشهد القرصنة للسفن والبواخر التجارية، إذا لا بد من محاربة هذا النوع من الإرهاب، ولقد حمى الإسلام المجتمع وشرع العقوبة على المفسدين في الأرض. الإسلام لا يقبل الظلم ولا الاعتداءات التي تخل بالأمن في أي مكان من العالم.
وبعد ذكر هذه النواحي الأمنية وتحديد مفاهيمها ومضامينها، أوضح الشيخ المفتي البناء الإسلامي المرتكز على كمال الانقياد لله وذلك بتعظيم أوامره وذلك باتباعها وتعظيم نواهيه وذلك باجتنابها، والوقوف عند حدود الله وحدود سنة رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأنه النبي الذي بعث بالحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم. ثم عدّد فضائل الإسلام الذي ضمن حقوق الفرد والجماعة وحقوق الأسرة، والزوج والزوجة والأبناء، وضمن الحقوق كلها بجميع أنواعها، ومنها حقوق الإنسان. وحرر الإسلام الإنسان من الجاهلية وجاء لإنقاذه من الوقوع في الرذيلة والمحافظة على النفس والعقل والمال. شرع الإسلام حق الإنسان في الحياة وحرم الاعتداء عليها وحفظ حقوق الفقراء لدى الأغنياء وأجور العاملين، كما حفظ حقوق غير المسلمين.
وشمولية الخطبة تمثلت في مخاطبة الشيخ لفئات عدة، خاطب قادة المسلمين والآباء والأمهات والعلماء والدعاة وشباب وشابات المسلمين والمربين ورجال الإعلام وصانعي القرار وقادة العالم وحكامه. كما خاطب القاطنين في مناطق غير مستقرة من العالم الإسلامي: فلسطين والصومال وأفغانستان والباكستان. هذا الخطاب الموجه لهذه الفئات تمت الإشارة فيه إلى المسؤوليات الجسام المنوطة بهم ويذكرهم باتباع المنهج السليم والصراط المستقيم.
هذا العالم الجليل والخطيب الفذّ، من خلال هذه الخطبة الشمولية في يوم عرفة، خاطب العقل والوجدان، خاطب الكلّ بروح الإسلام وبمنطقيته الواعية الناضجة المتفتحة.
بقي علينا أن نتمثل هذه الروح ونتشربها ونعيها ونطبقها على أنفسنا أولاً، في دورنا ومدارسنا وفي أماكن أعمالنا بل وفي شوارعنا وطرقاتنا، بل في كل مكان من أرضنا أو أرض غيرنا. العالم يحكم على الإسلام من خلال المسلم، لا تتوقع أن غير المسلم يعرف عن الإسلام من مظانه ومصادره، سيعرف عنه من خلالي وخلالك، من تصرفاتي وتصرفاتك، من ألفاظي وألفاظك.
أما الشيخ الجليل فلقد بلّغ الرسالة وشرحها ووضحها وقدّمها بأسلوب سهلٍ ومبسط، نفع الله بعلمه وبارك فيه ووفقه لما يحبه ويرضاه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وكلُّ عامٍ والجميع بخير.