تستوقفني بعض الرسائل التي تصلني من القراء، لربما لكمية الغضب بداخلها، أو زاوية الرؤية التي قد تتقاطع تماماً مع ما كنت أهدف إليه، أو لأنها ببساطة تبرز لي التفاوت الكبير في أساليب الاستقبال والتحليل نتيجة لفروقات شخصية أو شروط ثقافية مسبقة, ولكنني دوما أحاول أن أتقصى ما يقبع بين سطورها، وأفك رموز ما لم يُقل أو ما يمثّل نمطا مستترا في التلقي لدى بعض القراء.
على سبيل المثال: بعث لي أحد القراء برسالة غاضبة يقول في بعض سطورها (ما أدراكِ أنتِ بهذه الأمور؟ اتركيها للعارفين، الأولى بكِ أن تنشغلي بعلبة مكياجك) وهذه الجملة بالتحديد استوقفتني كونها تكتنز بالمؤشرات والإحالات إلى طبيعة الثقافة المهيمنة والمطبقة من حولنا، فهو حين يقول (ما أدراك أنت بهذه الأمور) فهو يعكس نمط تفكير عاجز عن الخروج من النفق الدامس الذي يدور فيه باتجاه أفق واسع من الممكن أن يستوعب أن هناك حقيقة أخرى تختلف عن حقيقته الخاصة، وأن نسبية الحقيقة هي شرط أساسي من شروط التفكير الموضوعي المنطلق من أسس منطقية سليمة، وأن التطابق والتشابه هو ديكتاتورية فكرية من شأنها اغتيال كل ما هو فرداني ومبدع في الطبيعة الإنسانية.
لذا يغدو رمي الآخر المختلف بالجهل هو رد فعل طبيعي لدى من لا يستطيع أن يخرج من قوالبه الحجرية التي تجعل من حقيقته الواحدة حقيقة مقدسة، وبالتالي لابد أن يخضع لها الجميع بولاء وتبتُّل.
الأمر الثاني الذي لاحظته في هذه الجملة هو (اللزمة الأيدلوجية) التي تسعى دوما إلى حجب الحقائق عن الجمهور المغلوب على أمره، لتقدمها بالقدر الذي تراه هي مناسباً، وبالتالي يصبح نبع المعرفة الوحيد هو بوابة تلك المؤسسة المغلقة على يقينها وتمام اكتمالها، وجميع المعارف خارج تلك المؤسسة مشكوك في أمرها، ليس لكونها خاطئة أو غير علمية أو تمتلك منطقيتها الخاصة، بل فقط لأنها عاصية ونافرة ومتمردة على شروط المؤسسة.
الأمر الثالث وليس الأخير (ولكنه الذي يتيحه لي حجم الزاوية مناقشته) هو الانتقال بالنقاش من مستوى الأفكار والقيم إلى زاوية الشخصي للنيل من الطرف المقابل، الذي يتحول بالتدريج أثناء هذا النوع من النقاش إلى خصم لابد من تصفيته، وليس طرفا نحاول أن نفسح له حيزا لتقديم حقيقته الخاصة! فهو حين يقول (علبة مكياجك) إنما هنا يستعين ويستقوي بكل الإرث الذي تختزنه الثقافة المحلية عن أدوار المرأة الجوفاء السطحية والتي تنشغل بأمور الطبخ والمكياج بعيداً عن مجلس الرجال الكبير الذي يستأثر بصناعة قوانين ومبادئ وقيم الثقافة، بينما تبقى النساء على الأطراف والهامش مقصيات عن الانخراط في عملية حياكة النسيج الثقافي للجماعة، فهو عندما يستحضر علبة المكياج هنا إنما يعكس عجزه عن الاشتباك مع الأفكار بندية وقدرة على تفنيدها ومناقشتها, لكنه بدلا من هذا يتوسل الشخصي وجميع ما هو متخلف في الثقافة ضد المرأة من أجل النيل من الطرف المقابل، وهذا الأمر بالتحديد هو الذي يعكس أنماط التفكير العنصري الفاشي الذي يفهرس المقابل على أساس من ( النوع - المذهب- اللون -الانتماء القبلي أو الجهوي) ويغيب بهذا جميع الخصائص الإنسانية في الطرف المقابل.
لكن بالتأكيد هي جزء من تركيبة ثقافية لابد أن نتوقعها ونستوعبها، وبالتالي التعامل معها وفق شرطها الزماني والمكاني، وضمن الشروط التنويرية والنفس الطويل الذي تتطلبه، بل وتشترطه مهمة أو صنعة الكتابة.