الإعلام اليوم هو الذي يصوغ الرأي العام، وينسج الوعي، ويوجه قناعات الجماهير. أن تلجأ جهة حكومية إلى (التطنيش)، وعدم التفاعل مع النقد، والرأي الآخر، بإيضاح وجهة النظر الرسمية، فإن هذه الجهة تساعد في تشكل رؤية سلبية عن نفسها. فالرأي لا يدفعه إلا الرأي، والنقد - مهما كان لاذعاً - لا يعالجه إلا التوضيح، وتفنيد الرأي الآخر والرد عليه. أن تسكت، أو لا تبالي، أو تتهرب، أو تتعالى وترفض النزول من برجك العاجي إلى الناس المعنيين - أصلاً - بالخدمات التي تقدمها لهم المؤسسات الحكومية، فالأمر لا يحتمل إلا احتمالين: أولهما أنك لا تملك الحجة لدفع هذا النقد وتفنيده. الاحتمال الثاني: أنك ترى نفسك أكبر من أن تسمع الرأي الآخر، وتتعامل معه. وأي من هذين الاحتمالين هو مصيبة في حد ذاته، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يتواكب مع منطق العصر، وثقافة عصر أصبح فيه الإعلام عنصراً لا يمكن تجاهله في توعية الناس، والارتقاء بوعيهم، وتثقيفهم، وتشكيل قناعاتهم، وتصحيح المسار، وتقويم الاعوجاجات، بما يدعم (استقرار) المجتمع في المحصلة النهائية.
وكثيراً ما يشتكي الإعلاميون من عدم تجاوب المؤسسات الحكومية مع محاولاتهم استيضاح أمر ما، أو التأكد من قضية، أو التعليق على خبر، فضلاً عن شكاويهم الدائمة من الإغراق في (السرية) والبعد عن الشفافية. وعندما ينشر الخبر أو الرؤية أو التعليق، يبدي المعنيون نوعاً من (الامتعاض) بحجة أن ما نشر غير صحيح، أو مظلل، أو مغرض، أو مختلق. في حين أن الإعلامي - في الغالب - يكون قد بذل كل ما في وسعه لاستيضاح (رأي) المسؤول، فلم يجد إلا التطنيش. وهذا - في تقديري - سببه أننا حديثو عهد بثقافة الحوار، والتعامل الإيجابي مع الرأي الناقد.
المسؤول في بلادنا - ولا أعمم - تعوَّد أن يكون (طاووساً) يريد من كل من حوله أن يشيد بجماله، ويتغنى بصفاته، ويغدق عليه من الأوصاف ما يرضي غروره، حتى وإن كان هذا المدح المختلق سيضلل الآخرين، ويسهم في التغطية على العيوب. وهذا يعني - بالضرورة - أن التطور، أو التغيّر للأفضل سيقف حيث كان، إذا لم يعد القهقري، فقد تعودوا أو عُودوا أن من أهم مهام الصحافة هي (الإشادة) والدعاية والمدح، والحديث عن الإنجازات. أما النقد، ونقاش السلبيات، فهو (انتقاص) لعلية القوم وتسفيه بهم، وبأعمالهم، ومنجزاتهم التي (يشهد) بها الجميع!
ثقافة (التطنيش) والمكابرة وعدم الاكتراث أصبحت عند البعض - للأسف - دليلاً على الرزانة والرفعة والثقل، أو كما يرددون: الأسلوب الأمثل لمواجهة (الرعاع). غير أن هذه الممارسة مثل أن تطنش (المرض) وهو يُنهك جسمك، ويستشري في كل أجزائه، ليصبح العلاج عندما يتفاقم، وتتفاقم أعراضه، أمراً (مستعصياً).
وإذا كنا نعيش عصر (الشفافية) - كما يقولون - فإن الشفافية والتطنيش ضدان لا يلتقيان.. إلى اللقاء.