سعيد طفل فلسطيني من مخيم (جنين) بالضفة الشرقية من أسرة مكونة من سبعة أفراد: أم. أب. أخوين. وثلاث بنات.. هو لما تجاوز الحادية عشرة من عمره.. يحلم كغيره بالعودة إلى قريته التي هُجّر أهله منها عام 1948م.
كان من أكثر أقرانه الصغار توقاً إلى العودة.. في داخله حماس مُقاوم.. ذاكرته الفتية تختزن داخلها كل أناشيد العودة إلى الوطن السليب طالما رددها أمام أقرانه الصغار..
في زاوية نُزله القديم المكون من غرفتين وملاحقهما حجارة يشارك بها أطفال الحجارة كلما استدعى الأمر.. ما إن تنفد حتى يعود إلى جمعها من جديد ليُصوّبها من جديد، ذلك أنه يملك كغيره نبض وطن وإرادة كبار وعزمهم على مقارعة المحتل بما تيسر لديهم من أدوات حتى ولو كانت في حجم حجارة.
في عام 2008م تعرض المخيم لهجمة بربرية إسرائيلية بالقذائف سوّت بدارهم الأرض كغيرها من عشرات الدور.. استشهد الجميع.. وكان نصيبه الرحيم بتر ساقه وعكازة يستند عليها.. ودار إيواء تؤويه دون أهل فَقَد معها ذلك الحلم الجميل الذي يراود خياله الفتي بالعودة إلى تراب الوطن.
و(مبارك) وحيد أبوين فلسطينيين بقطاع غزة من منطقة رفح لم يتجاوز الثالثة من عمره. والده من النازحين من ديارهم يزرع قطعة أرض صغيرة يسد من ريعها رمقه وحاجة زوجته وطفله.. أم مبارك تعاني من ضائقة الحصار وشظف العيش ورهبة المكان الذي طالما اجتاحته آليات إسرائيل وأعملت فيه دماراً وخراباً.. إحساس ليس لها وحدها ولا لزوجها وطفلها وإنما تشاركهم آلاف الأسر التي تقع على مرمى قذائف الاحتلال.. وهدير مجنزراته.
ذات صباح مبكر كان يحرث حقل القمح بساعديه المفتولين.. وفجأة جندلته طلقات غادرة أوقعته الأرض يسيح في بحر من الدم.. لفظ أنفاسه الأخيرة شهيداً مخلفاً خلفه أم مبارك ومبارك التي داهمها المرض بعد رحيل زوجها ببضعة شهور أعياها عن القدرة على الحركة والكسب كي تعيش هي وطفلها مثل آلاف الأسر الفلسطينية التي اغتال أحلامها الحصار الظالم وباتت تحت رحمة ما تجود به هيئة الإغاثة من غذاء.. يصل حينا.. ويتوقف أحياناً بفعل الحصار الخانق.. الذي لا يرحم ولا يثير شفقة ولا رحمة من أحد.
(سعيد) الوحيد الشريد مسح من مخيلته وذاكرته المكدودة كلمة (عيد)، إنه يرقب الآتي بمنظار اليأس.. ومنظور البؤس.. وعين الرهبة والخوف الذي لا ينتهي عند حد.. المستقبل أمامه مجرد وهم.. والحلم الذي كان يداعبه ويلاعبه مجرد سراب وخراب.. وضباب أسود مثقل بالجهام والوحشة.
ومثل (سعيد) تأتي حكاية (مبارك) مرارة يُتْم بفقده لأهله.. ووجع ألم ما زال يكابده، ووحدة ووحشة مكان لا مكان فيه لرغبة.. وإنما رهبة تسكن أعمق أعماقه.. فهو طفل لا يملك من أمره أكثر من دموع ساخنة تتدحرج على خديه الذابلتين مشحونة باليأس والبؤس.. وبمخاطر مستقبل سوداوي لا ضوء في نفقه.
(سعيد) و(مبارك) عنوانان صارخان يعنيان كل ما تحمله الدنيا من هموم وأثقال لا يقدران على حملها لآلاف آلاف الأسر، آلاف وآلاف البؤساء التعساء الذين غدر بهم الزمن على حين غرة فأسلمهم للنزوح والتشرد.
جاؤوا جميعاً إلى الحياة وفي أفواههم صرخات أمل، وإذا بهم في النهايات يواجهون صرعات ألم مرير لا يكاد ينتهي حتى يعود من جديد بفاجعة أقسى وأقوى وحشية مما كان عليه في عالم غائب أو مغيب لا يعرف الرحمة، ولا يعترف بإنسانية الإنسان وحقه في الحياة الحرة الكريمة..
هما (سعيد) و(مبارك) كغيرهما ممن كُتب عليهم دفع ضريبة التوحش البشري، لا يستشرفون أعياداً كغيرهم من السعداء والمباركين.. ولا يبصرون بارقة من أمل عيد قادم يتغنون به كسواهم أكثر من مقولة (المتنبي) وهو يتساءل في حيرة وحسرة عن أي عيد؟ عن أية حالة جاء بها واقع العيد غير السعيد وغير المبارك في زمن مسربل بالحرمان وبالنكران وشراسة الإنسان..
هي قصة أزلية تسترجع الحياة القاسية فصولها الدرامية وتستعيدها من جديد بوجه آخر.. وبزمن آخر.. وبفاعل آخر.. وبضحايا آخرين ما تلبث أن تنتهي إلى مجرد ذكريات سوداء من الماضي يجترها المؤرخون والراصدون لحركة التاريخ المخضب بالدم.. وبالهَمّ.. وبالفواجع..
معهما.. ومعهم.. ومع من سبقهم.. ومع من سيأتي من بعدهم على مسارهم ونهجهم لا نملك أكثر من علامة استفهام وتعجب رصدها شاعر العربية (أبو الطيب):
عيد بأية حال عدتَ يا عيد؟!
لماذا؟ لأنه عيد غير سعيد على (سعيد) وغير مبارك على (مبارك) وغيرهما كُثُر يرقبون واقع حياتهم بعيون ملأى بالحيرة والحسرة.
الرياض ص ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338