Al Jazirah NewsPaper Thursday  11/12/2008 G Issue 13223
الخميس 13 ذو الحجة 1429   العدد  13223
أوروبا والإسلام
طارق رمضان(*)

أصبح الحضور الإسلامي المتنامي في أوروبا يشكل قضية مركزية في مختلف البلدان الأوروبية. والمناقشات العديدة التي تفشت في مختلف أنحاء القارة بشأن (التعددية الثقافية)، أو (العلمانية)، أو حتى (الهوية)، تكاد ترتبط دوماً بهذا العامل (الإسلامي).

ولكن ليس بالضرورة أن يكون هذا الربط نابعاً من تعصب، إذ إن هناك علاقة أساسية قائمة بين (القيم) و(القوانين) من جهة، وبين (الثقافة) و(التنوع) من جهة أخرى.

والحقيقة أن أوروبا تحتاج إلى ما هو أكثر من النقاش حول (الإسلام) و(المسلمين)، إنها تحتاج إلى حوار جاد مع نفسها بشأن هذه العلاقة، وذلك لأنها تواجه أزمة واضحة.

إن السؤال المناسب هنا هو: هل تستطيع أوروبا أن تظل متوافقة مع قيمها (الديمقراطية، والمساواة، والعدالة، والاحترام، إلى آخر ذلك) وفي الوقت نفسه تتحمل وتستوعب مواطنين جدد ينتمون إلى خلفيات ثقافية وديانات مغايرة؟ أو بعبارة أخرى، هل الأوروبيون مؤهلون فكرياً ولغوياً وثقافياً لمواجهة التحدي المتمثل في المزاوجة بين قيمة المساواة وهذا التنوع المتنامي على الدوام في تركيبة المواطنين الأوروبيين؟ الواقع أن نقطة الانطلاق هنا واضحة: إذ يتعين على الحكومات أولاً ألا تخلط بين المشكلات الاقتصادية الاجتماعية (البطالة، والعنف، والتهميش، وما إلى ذلك) وبين القضايا المتعلقة بالثقافة والدين.

أو بعبارة أخرى، لا ينبغي لنا أن نضفي بعداً (ثقافياً) أو (دينياً) أو (إسلامياً) على المشكلات الاجتماعية.

وحقيقة أن غالبية الأوروبيين الذين يواجهون البطالة أو التهميش الاجتماعي هم من السود أو الآسيويين أو من أهل شمال أفريقيا أو من المسلمين لا تعني أن أديانهم أو أعراقهم أو ثقافاتهم تفسر أوضاعهم.

إن أي نوع من أنواع الحتمية الثقافية أو الدينية أو العرقية يشكل خطورة بالغة في هذا السياق.. فالبطالة والتهميش يعكسان عملية اقتصادية اجتماعية، ونحن نحتاج إلى تبني سياسات اجتماعية واقتصادية واضحة لحل مثل هذه المشكلات.

أما أن نلجأ إلى تفسيرات ثقافية (دينية) عرقية غامضة وملتبسة فهذا يشكل وصفة أكيدة للتقاعس عن العمل، إن لم يكن العمل المضلل.

لا شك أن الأبعاد الثقافية والعرقية والدينية قد تشكل عوامل ثانوية تابعة لابد من وضعها في الاعتبار، ولكنها ليست الأسباب الرئيسة للبطالة والتهميش.

يتعين على الحكومات الأوروبية بدلاً من الإنصات إلى اللغة الخطابية التي يتشدق بها اليمين المتطرف أن تروض نفسها على تبني سياسات قوية وخلاقة في التعامل مع المشكلات الأساسية في التعليم (المدارس المنفصلة أو مدارس الدرجة الثانية، والمناهج الدراسية، وما إلى ذلك)، وفرص العمل غير المتساوية، واضمحلال المناطق الحضرية.

في الواقع، وعلى النقيض مما تحول إلى حكمة تقليدية شائعة (والتي تقوم للأسف على مقترحات أحزاب اليمين المتطرف باعتبارها نظريات طبيعية مسَلَّم بها)، فإن الشباب الأوروبي المسلم ليس لديهم مشكلة في الاندماج، بل إنهم يشعرون بالإحباط الشديد بسبب غياب (أو فشل) السياسات الاجتماعية القادرة على تلبية احتياجاتهم.

وهذا الفشل لا يعني أن نوعاً جديداً من العنصرية - (كراهية الإسلام) - بات الآن سائداً. ولكن لا أحد يستطيع أن ينكر أن بعض الأفراد يتعرضون للتمييز استناداً إلى (دينهم) (وفقاً لدراسة قامت بها مؤسسة بيو Pew للاستطلاع مؤخراً فإن 45% من الأوروبيين ينظرون إلى الإسلام من منظور سلبي).

ومن بين أشد الإشارات دلالة على أن الحوار الحالي بات محقوناً بجرعة من التمييز ذلك الهوس بفكرة (الاندماج) رغم أن الأغلبية العظمى من المسلمين الأوروبيين يلتزمون بالقانون ويحترمونه، ويعرفون لغة البلد الذي يعيشون فيه، ويخلصون لذلك البلد (رغم أنهم قد يميلون أحياناً إلى انتقاده، مثلهم في ذلك كمثل بقية أخوانهم من المواطنين).

إن الإشارة على نحو لا ينقطع إلى (المواطنين من أصول مهاجرة)، أو إلى (المجتمع المضيف)، لا تخدم إلا كأداة لتعزيز الفكرة القائلة بأن المسلمين ليسوا أوروبيين (حقيقيين) أو لا يشعرون بأنهم (في ديارهم).

إن مثل هذا الكلام يعني ضمناً أن المسلمين الأوروبيين لابد وأن يثبتوا ولاءهم باستمرار.

وهذا التصور للمسلمين باعتبارهم (الآخر) أو (الأجنبي) يشكل عاملاً محورياً في التحريض على التمييز في الوظائف أو في أسواق الإسكان.

وبعيداً عن الخوف وانعدام الشعور بالأمان، فمن الأهمية بمكان أن نعتمد على الحقائق والأرقام لكي نبرهن على أن الموقف، سواء على المستوى المحلي أو الوطني، أفضل كثيراً مما تصوره المناقشات الحماسية المستقطبة التي تتبناها وسائل الإعلام وبعض الدوائر السياسية. فعلى النقيض مما تصوره المجادلات الدائرة، سنجد أن أداء المسلمين الأوروبيين طيب للغاية اليوم، والمستقبل يبشر بخير أعظم.

إذا كانت البلدان الأوروبية راغبة في الاستمرار على صدقها في احتضان حقوق الإنسان العالمية المتساوية وتجنب أي إغراءات قد تدفعها إلى الانزلاق نحو العنصرية وكراهية الأجانب، فلابد وأن يسارع كل الأوروبيين إلى العمل.

ويتعين على المسلمين الأوروبيين أن يتجنبوا تغذية (عقلية الضحية) وأن يقروا بمسؤولياتهم داخل مجتمعاتهم.

ومن الأهمية بمكان أن يحرص المواطنون الأوروبيون، المسلمون وغير المسلمين على السواء، والحكومات الأوروبية، على تحاشي أي شكل من أشكال العنصرية.

وهنا يلعب التعليم دوراً محورياً.

فلابد وأن تكون المناهج المدرسية أكثر شمولاً (لبناء تاريخ مشترك من الذكريات) وتوسيع معارف الطلاب بالأديان والثقافات.

وفي وسائل الإعلام، ينبغي تدريب الصحافيين على رصد (قصص النجاح) وليس المشكلات فقط.

وفي كل الأحوال فإن الخطاب الذي يرسم ارتباطاً ضمنياً بين كلمات مثل (غير قانوني) و(إجرامي) و(مهاجر) و(مسلم)، لابد وأن يُنظَر إليه باعتباره أداة لتغذية الخوف وردود الفعل الكارهة للأجانب.

إن المسلمين يواجهون عنصرية جديدة، ويتعين عليهم أن يناضلوا من أجل الحصول على حقوقهم، ولكن ينبغي عليهم يفعلوا هذا جنباً إلى جنب مع أخوانهم المواطنين وفي العديد من المجالات: مثل السياسة الداخلية والخارجية، والتعليم، والإعلام، والنشاط الاجتماعي.

كما يتعين على الأوروبيين أن يكفوا عن الشعور بالرضا عن أنفسهم في اعتقادهم الراسخ بأنهم محصنون على نحو أو آخر ضد أي انبعاث جديد للعنصرية أو خيانة حقوق الإنسان الأساسية.

وأخيراً، يتعين على المسلمين أن يكفوا عن التعامل مع مشكلاتهم (أو التفاعل معها) في معزل عن الآخرين.

(*)أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة أكسفورد وجامعات
إيراسموس (Erasmus).
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008.
خاص بالجزيرة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد