مهنة (التدريس) ليست كغيرها من المهن، يشغلُّها الموظف بقرار التعيين وتشغر بعده بقرار الإحالة إلى التقاعد أو غيره من الأسباب!! إنها أكبر من ذلك إذا علمنا بأنها أمانة، وهي أعظم من ذلك إذا أدركنا كونها رسالة.. فهي أمانة يتحمَّلُها المربُّون المخلصون في أعناقهم تجاه الناشئة من أبنائنا، تعليماً وتربيةً، وهي رسالة يتمثّل في أدائها المعلمون الأكفاء طريقة معلمهم الأول، ويسيرون على نهج قدوتهم الأمثل، نبي الرحمة وينبوع الحكمة، محمد الهادي الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
عندما يستشعر المعلم أثناء تأديته واجباته الوظيفية عظم المهمة، ويتذكر وقتها سمو المهمة، فهو لن يتوانى أو يتأخر عن بذل المزيد من الجهد في متطلبات العمل، وبإخلاص واحتساب لا يُخالجه كلل أو ملل، متحرّياً هنالك نفع طلابه في زمن الطلب، واستفادتهم إبان مرحلة التعلم، فاحتساب الأجر على الله يورث في النفس الرضا والقناعة، وبلوغ القصد يُنسي ما كان قبله من التعب والسآمة.
وفي حياة المعلمين العملية تمرُّ على البعض منهم مواقف تترى، وفرص شتى، فلا يُعيرونها شيئاً من اهتمامهم أو تأملاتهم، بل وكأنها لا تعنيهم في شيء!! وإذا ما اهتبلها قومٌ آخرون كانت لهم يداً لا تُنسى، وعلامة في النصح لا تُمحى.. إذ إن كثيراً من هذه الفرص والمواقف تُشكِّل منعطفاً في مسيرة الطالب ونظام حياته، وبناء فكره وصياغة توجهاته، فكم من لمسة أحيت في النفوس الأمل؟ وكم من همسة كان لها فِعلُ الجُمل؟! وعلى مر العصور يتذكر الناس المواقف التي أثَّرت في مسيرتهم ونظام حياتهم، وغيَّرت من أسلوب تعاملاتهم، فيحفظون للمحسن إحسانه، ويدخرون للمسيء إساءته، وبذلك تُخلّد الأسماء ويعلو ذكرها، وتُحمد أفعالها، ويُثقّل ميزانها أو العكس من ذلك كنتيجة طبيعية لإهمالها وتقصيرها.
إن المعلم الذي يجد الفرص متاحة أمامه ثم لا يستثمرها في مصلحة أبنائه الطلاب، لا تختلف حاله كثيراً عن المزارع الذي لا يأبه بمواسم الزرع ولا مواعيد التلقيح!! وفي هذا السياق تحضرني قصة ذكرها أحد النابغين في (فن الإلقاء) عن نفسه يوم أن كان طالباً في الصف الأول المتوسط وقد تعرَّض إلى موقف يُبرز الشخصية المسؤولة للمعلم كمرب يتحيَّن الفرص ويهتبلها في مصلحة أبنائه، حيث يقول: تأثرت ذات يوم وأنا أشاهد بعض زملائي لا يحرصون على أداء صلاة القيام في رمضان ويلعبون خارج المسجد غير مكترثين بروحانية الشهر الكريم، فعقدت العزم حينها على أن أُلقي كلمة في مصلى المدرسة عن هذا الموضوع، ولما ذكرتُ ذلك لمعلمي وطلبتُ الإذن بما عزمت عليه رحّب بهذه الخطوة وعدّها نبوغاً مُبكراً يستحق التشجيع!! وما أن اقترب وقت الصلاة الموعودة حتى بدأت الهواجس والمخاوف تنتابني، وتصورت بفعل حداثة سني وقلَّة خبرتي أنني قد وضعت نفسي في موقف لا أُحسد عليه، فخارت قواي، وبدأ العرق يتصبب مني، وما شعرت إلا بالمنادي بعد الصلاة يدعوني لإلقاء الكلمة، فقُمت إليه مُتثاقلاً وجِمَاً، ووقفت أمام المصلين قابضاً على كلتا يديَّ ورجلاي لا تكادا تعتمدان من رهبة الموقف، وبدأت أتلو عليهم وبصوت منخفض آيات من سورة الفاتحة، فتنبهتُ إلى ذلك وتسمّرت أمامهم صامتاً لا أنبس ببنت شفة، وقد تبخَّرت الكلمات التي حفظتها، وطارت من رأسي العبارات التي جمعتها، فلا تسأل حينها عن الضحكات والهمسات والنظرات من زملائي الطلاب وبعض المعلمين، هنالك عدت أدراجي إلى المكان الذي قمتُ منه، وشرعت في أداء السُّنة الراتبة مُطيلاً في ركوعها وسجودها انتظاراً لخروج الجميع، ومتناسياً أنني سألقاهم في غرفة الدرس.! وما أن دخلت الفصل حتى عادت الكرة ضحكاً وتهامساً، فجعلت عينيَّ في كتابي وحالي لا يعلم بها إلا الله، وفي الحصة التي تليها مباشرة جاء المعلم وضرب بيده على طاولتي بقوة وأخذ بيدي إلى حيث السبورة وقال: (لقد قُمتَ بعملٍ رائع اليوم، من منكم أيها الطلاب استطاع أن يقف أمام الجميع؟ زميلكم فعل ذلك فهو الأفضل)!
هنالك عادت إليّ عزيمتي المُحطمة، وعدت من الغد وألقيت كلمتي أمام الطلاب، ومنذ ذلك الحين لم أدع لوالديَّ إلا وادعو لمعلمي إبراهيم معهما، فلقد كان بحق مربياً عظيماً في مواقفه، ومعلماً عميقاً في رؤيته وبُعد نظره.
وبعد.. لا شك أن المواقف التي تمرُّ بالمعلمين والمربين في مدارسنا كثيرة وكثيرة، فهل يتعاملون مع هذه (الفرص) كما تعامل معها المعلم إبراهيم؟!
الزلفي