من بوادر القبول ومؤشرات التوفيق لحاج بيت الله العتيق أن يَعْرف المستهدفُ بالفضل لذويه وباذليه فضلهم، ثم لا ينقص منه شيئا، ولا يُفَوِّت منه فرصة، وان يترجم المعرفة لتكون في صالح المقصود بالفضل..
.. ففي ذلك انتفاع مشروع وشكر واجب وتحفيز للمتفضل على مزيد من العطاء بنفس راضية وصدر رحيب.
وليست المعرفة والترجمة قصرا على اللهج بالثناء في السر والعلن، وإنما هي شيء يتعدى القول إلى المشاطرة في تفعيل الأنظمة والتعليمات واستثمار رشيد للتسهيلات المتاحة على وجهها. وإخفاء القبول والرضاء أو إبداؤهما وأخذهما بأطراف الأحاديث لا يغني من الحق شيئا ما لم يجسد ذلك كله فعل منضبط، فالخدمات والتسهيلات والإنفاق السخي على كافة المرافق والمعابر والمشاعر لا يمكن أن يؤدي شيء منها ما يتوخى منه إلا بوعي الحاج لها وتعامله الحضاري معها.
والدولة التي وضعت في أولويات مهماتها تطهير البيت حِسَّاً ومعنى للطائفين والعاكفين والركع السجود، تود من ضيوف الرحمن كافة أن يكونوا في مستوى متطلبات الحج توخيا لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} والمفردات الثلاث: الرفث، والفسوق، والجدال إذا استطاع الحاج تفاديها تمت الشعائر وفق الأنظمة والتعليمات، وهو الثمن الذي ترقبه الدولة لجهودها وأموالها وأوقاتها وطاقاتها البشرية المبذولة بسخاء وبطيبة نفس لا مَنَّ فيها ولا أذى، والرفث:اللغو بما لا ينبغي. والفسوق: الخروج عن الطاعة. والجدل: الخصام مع الناس، وتلك جماع المفسدات، ومن خالف التعليمات فقد فسق عن أمر ربه لأنها وضعت لحفظ الحقوق وكف الأذى، وهي طاعة لا معصية فيها، ومن ثم فهي واجبة على الحاج ومن استخف بها فقد جهل مقاصد الشريعة ومحققات البيعة الشرعية، وعرض حجه للفساد وهو ما لا يريده في قرارة نفسه.
وهل أحد من المستجيبين لاذان المبلغ عن الله والقادمين من كل فج عميق إلى بلد لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس لا يود أحدهم أن يكون حجه مبرورا وسعيه مشكورا وذنبه مغفورا وعمله متقبلا، وأن يعود إلى بلده لم يؤذ أحدا ولم يؤذه أحد؟
وهل أحد من الكافة يتصور أن التوفر على الحج المبرور متعذر أو بعيد المنال، إن إحساس كل حاج بمهمته وأهمية مقاصده كفيل بتيسير التسديد وتحقيق القبول، ولو أن كل حاج عرف حدود ما أنزل الله، وأن خادم الحرمين الشريفين ساع جهده لحمل الكافة على الالتزام بهذه الحدود بما أحاطها من أنظمة وتعليمات لاستراح بنفسه وأراح المسؤول واستقامت الأمور على مراد الدولة التي لا تريد من وراء عملها وإنفاقها السخي وجهدها الجهيد إلا توفير الأجواء الملائمة للحج المبرور ولا سيما أن جل الحجاج من المسنين والضعفاء والأميين الذين يأتمرون بأمر علمائهم وأولي الأمر منهم. وكيف يكون من عاقل سوي أي استخفاف بمحققات السلامة للكافة، وهو يعلم يقينا أن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
والدولة التي ضربت أروع الأمثلة في الإنفاق السخي والتسهيلات الواسعة والتنظيمات المرنة والتعليمات الواضحة تود ألا يشكل الجهل والضعف وعدم المبالاة عقبة في طريق أداء رسالتها الإسلامية، وإذا كان على حجاج الآفاق شطر من المسؤولية فإن على حجاج الداخل ضعف ذلك، فحاج الداخل يستفيد من الخدمات والتسهيلات، وهو مسؤول بوصفه جزءا من الدولة المضيفة فلا دولة بدونه، ولا قيمة له بدون دولة قوية مطاعة ومهيمنة، وتمرده على التعليمات أو استخفافه بالضوابط والأنظمة إضعاف لسلطانها. وتشويه لسمعتها وإحباط للمسؤولين الذين يعولون عليه في العمل على تفعيل التعليمات وعند انعدام المسؤولية وفقد الحس الأمني لدى المواطنين يكونون عبئا وعقبة في حين أن كل واحد من الحجاج إنما هو جزء من الدولة المضيفة، ولو أن حجاج الداخل أحسوا بمسؤولياتهم إزاء ضيوف الرحمن وترجموا رسالة الدولة قولا وعملا وانضباطا ووعيا وتوجيها وإيثارا لقدموا لحجاج الخارج قدوة حسنة ولضربوا أروع الأمثلة في الامتثال ولأعطوا عن بلادهم صورة مشرفة، ولأصبحوا بممارساتهم الحضارية جزءا من رجال الأمن والتوعية.
ولكم كان من الأجدى والأهدى إعطاء دورات توعوية مكثفة لكافة الحجاج ولحجاج الداخل بالذات بحيث تكون شرطا في الإذن بالحج، لكي يسهم الحاج بدوره الأمني والرقابي والتوعوي ويكون عينا متيقظة وأذنا واعية على المشاعر وسلامة المقيم والعابر، إذا ما أكثر المفسدين وضعفاء النفوس والمستخفين الذين يودون تشويه سمعة البلاد وأهلها.
ومتى أحس حجاج الداخل بمسؤولياتهم خف العبء على رجال الأمن وامتد الإحساس لحجاج الفجاج العميقة، ولما احتاجت الدولة إلى تجنيد أكثر من مائة ألف فرد لضبط الأمن والحركة وفك الاختناقات ومراقبة الأمواج المتدفقة من كل صوب وحدب.
وليس من السهل استيعاب الوافدين على اختلاف ألسنتهم وعاداتهم ومستويات تفكيرهم ووعيهم وطوائفهم وجهلهم بالشعائر والمشاعر وأساليب الأداء والتعامل مع لحظات الذروة إذا لم يكن المواطن عينا متيقظة وأذنا واعية والدولة بما هيأ الله لها من إمكانيات مادية ودوافع إيمانية وشعور بالمسؤولية تود لعطاءاتها السخية أن تجد من يقدرها قدرها ومن يترجمها على أرض الواقع على طريقة الممتثل لمراد الله ورسوله، والحاج الذي ينتهب الخطى من كل فج عميق وراء الشعائر والمشاعر وسط أمواج من البشر وعبر مساحات ضيقة وفي زمن محدود لابد أن يواجه عوائق قد لا يقدر بإمكانياته الذاتية على تجاوزها أو التغلب عليها، وتسهيلات الدولة وممارسة رجالاتها حين لا تجد الأجواء الملائمة لها قد تتحول إلى عوائق، وذلك بعض ما يشيعه المرجفون حين يصدهم المنظمون أو يعيقهم المفوجون.
ولو أن الحجاج عرفوا ما لهم وما عليهم لما احتاجوا إلى من يتدخل في شؤونهم إذ لو أنصف الناس لاستراح المسؤول، وكل ما تهدف إليه الدولة أن يقضي الحاج حجه بسلامة وأن يعود إلى بلاده سالما غانما.
لقد كان السفر إلى الديار المقدسة قبل توحيد البلاد مغامرة محفوفة بالمخاطر والغادي إليها مفقود والرائح منها مولود، ولم يكن هناك أمن في الطرق ولا في الغذاء ولا وقاية من الأوبئة ولا شيء من وسائل السلامة، وحين عبدت الطرق وأمن الناس على حياتهم وصحتهم وتوفرت الأغذية والأدوية ضاقت المشاعر وفاضت السبل وتدفق الناس من كل فج عميق وأصبح من الضروري التدخل للتحديد والتفويج وبناء الجسور والأنفاق، وحين لا يستجيب الحاج بطوعه واختياره إلى متطلبات الأنظمة والتعليمات يكون عرضة للمخاطر ومقترفا للرفث والفسوق والجدال.
ولو أحس الحاج والمعتمر بخطورة الأوضاع واكتفى بحجة الفرض ولو إلى حين وترك المشاعر المحدودة الاستيعاب لمن لم يحج فرضه، واحتسب الأجر على الله ببذل نفقة حجه التطوعي في سبل الخير وهي كثيرة لاستطاعت الدولة أن توفر الأجواء الملائمة والمشرفة.
إن على أبناء المملكة أن يعوا رسالتهم، وأن يدركوا أن الدولة حين لم تأذن لكل راغب في الحج فإنما تريد أن تتيح الفرصة لكافة المسلمين لأداء فرضهم، وبخاصة ممن تقدمت بهم السن ولم يحجوا، وأحسب أن أي متحايل على الأنظمة والتعليمات المتفق على عدلها ومشروعيتها آثم قلبه عاص لربه مؤذ للحجاج والعمار والله لا يحب الفساد، وطاعة ولي الأمر المؤتمر بأمر الله من طاعة الله ورسوله، والعبادات مرهونة بالاستطاعة، والحج لا يكون إلا لمن استطاع إليه سبيلا، ولا سبيل مع الإيذاء ومضايقة ذوي الفروض وفي الحديث: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني) أو كما قال (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا).