الحج مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة، مؤتمر بشرى عظيم، يجد فيه المسلمون أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام. الحج مؤتمر للتعارف والتشاور وتنسيق الخطط وتوحيد القوى وتبادل المنافع المادية الاقتصادية والمعنوية الفكرية والثقافية والإعلامية. يقول عز وجل في كتابه العزيز: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ..}(26-28)سورة الحج.
قال المفسرون -رحمهم الله- إن الله سبحانه لما أمر بالحج في قوله: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ..}، ذكر حكمة ذلك الأمر بقوله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ..}. واختلف المفسرون في هذه المنافع، إذ حملها بعضهم على منافع الآخرة، وهي العفو والمغفرة، وبعضهم الآخر حملها على منافع الدنيا، وهي التجارة في أيام الحج.
والأولى حملها على الأمرين جميعاً، يقول ابن الجوزي -رحمه الله- في تفسيره: والأصح من حملها على منافع الدارين جميعاً، لأنه لا يكون القصد للتجارة خاصة، وإنما الأصل قصد الحج والتجارة تبع، ثم إن المنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام كثيرة، فهناك المنافع الروحية التي تفيض من خلال المكان وروعته وبركته، وهناك المنافع الاقتصادية المادية إذ يعتبر الحج مؤتمرا إسلاميا لحل مشكلات المسلمين الاقتصادية، كما أن في الحج رواجا اقتصاديا للمسلمين من خلال توزيع وتبادل وبيع وشراء السلع والخدمات اللازمة، إضافة إلى منافع البدن والذبائح للفقراء والمساكين والمحتاجين، ومنافع التجارة وكسب المعيشة أيام الحج خاصة. لذا، قال عز وجل في محكم كتابه وهو يخاطب سبحانه عباده المؤمنين الحجاج: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ..}(198)سورة البقرة.
يذكر البخاري -رحمه الله- عن ابن عباس -رضي الله عنه- سبب نزول هذه الآية من أن ذا المجاز وعكاظ كانت متجر الناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام، كأنهم كرهوا ذلك؛ حتى نزلت الآية.
وقد أوضح علماؤنا أنه من الممكن قياس التجارة على سائر المباحات من الطيب والمباشرة والاصطياد في كونها محظورة بالإحرام، فلدفع هذه الشبهة نزلت {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي تطلبوا عطاء منه وتفضلاً أو زيادة في الرزق بسبب التجارة والاسترباح منها.
كما أنه في الآية إشارة إلى أن ما يبتغيه الحاج هو من فضل الله مما يعينه على قضاء حقه ويكون فيه نصيب للمسلمين أو قوة للدّين، فهو محمود، وما يطلبه لاستبقاء حظه، أو لما فيه نصيب نفسه، فهو معلول.
ثم إن الشبهة كانت حاصلة في حرفة التجارة في الحج من وجوه، منها: أن الله سبحانه منع الجدال وفي التجارة جدال، وأن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية.
يقول القرطبي -رحمه الله- في تفسيره لما أمر الله سبحانه بتنزيه الحج عن الرفث والفسوق والجدال رخص في التجارة وهي من فضل الله.
ومن رحمته سبحانه أن سمى إباحة البيع والشراء والكراء في الحج، ابتغاء من فضله، ليشعر من يزاولها أنه يبتغي من فضل، حين يتجر، وحين يعمل بأجر وحين يطلب أسباب الرزق.
ومتى ما استقر في قلب الحاج إحساس بأنه يبتغي من فضل الله حين يكسب ويحصل على رزقه فهو، إذن، في حالة عبادة لله تعالى، لا تتنافى مع عبادة الحج.
ومن أجل ذلك، فقد أمر عز وجل عباده المسلمين الحجاج بالتزود لرحلة الحج، فقال سبحانه: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..} (197)سورة البقرة.
يقول القرطبي -رحمه الله- في تفسيره أمر الله سبحانه عباده باتخاذ الزاد، حيث كانت طائفة من العرب تجيء إلى الحج بلا زاد، ويقول بعضهم كيف نحج بيت الله ولا يطعمنا، فكانوا يبقون عالة على الناس فنهوا عن ذلك وأمروا بالزاد.
وغير خافٍ، أن التزود يشمل التزود للأسفار الدنيوية، والتزود للأعمال الصالحة، فقد قال علماؤنا أمره عز وجل بالتزود لسفر العبادة والمعاش، وزاده الطعام والشراب والمركب والمال، وبالتزود لسفر المعاد، وزاده التقوى والعمل الصالح. كما أن في الآية دعوة للتزود في رحلة الحج، زاد الجسد وزاد الروح، فقد جاء التوجيه إلى الزاد بنوعيه مع الإيحاء بالتقوى في تعبير عام، والتقوى زاد القلوب والأرواح.
وعليه، فينبغي أن يكون زادنا إلى الآخرة باتقاء القبائح، فإن ذلك خير الزاد، فليس السفر من الدنيا بأهون من السفر في الدنيا، وهذا لابد له من زاد، فكذا ذلك بل يزداد.
ختاما أقول: إذا كان زاد الدنيا يخلص من عذاب منقطع موهوم، فإن زاد الآخرة ينجي من عذاب أبدي معلوم.
هذه بعض المعالم القرآنية والظلال التفسيرية لهذه الشعيرة العظيمة (الحج).
وقد آن أوان اغتنام منافعها ومواسمها وبركاتها وفضائلها وروحانيتها.
عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية