إن الماضي لا يتحدث معك.. إلا إذا وجهت له الأسئلة من مثل من أنا.. كيف أرى نفسي. كيف يراني الآخرون وما العوامل التي تؤثر في تفكيري وسلوكي أي ذات العلاقة بالهوية الذاتية للفرد أو هي تلك الأسئلة ذات العلاقة بالهوية الوطنية.. من مثل أين أنتمي.. عمن أنا مسؤول كيف يمكن أن أنتمي إلى مجموعة وأظل صادقا مع نفسي؟؟؟
أو هي تلك الأسئلة ذات العلاقة بالظواهر وأدوارنا فيها كبشر من مثل لماذا كانت الحروب وماذا تعني المقاومة في عالم تتناقض فيه الاختيارات؟؟ وما العوامل التي ساهمت في خيارات مرتكبي جرائم الحروب؟؟ من المسؤول؟؟ هل هناك أناس يستحقون اللوم أكثر من آخرين؟؟ كيف نحاكم أو نعاقب أولئك الذين شاركوا في حرب؟ كيف نعفو ونتصالح.. كيف نتذكر؟
كانت هذه بعض من الأسئلة الجميلة التي حاول أ.د. حسن شحاتة اثارتنا بها عبر ورقته التي قدمها في المؤتمر السنوي السابع لتطوير التعليم العالي الذي عقد في كلية التربية جامعة عين شمس في الفترة 23-24 نوفمبر الحالي وقدر لي حضوره والتي كانت تتناول إستراتيجيات جديدة لتدريس مادة التاريخ تعنى بالتخلص من الطريقة التقليدية في تدريس هذه المادة والمبنية على سرد الأحداث والوقائع التاريخية والتفاصيل عن الشخصيات، وذلك بالتركيز على دراسة المفاهيم الأساسية للتاريخ مثل التغيير والاستمرارية وعقلنة الأحداث المؤلمة لفهم مسبباتها المرتبطة بالتاريخ البشري وبالثقافات من أجل تجاوز آلام الماضي في إطار من الفهم العقلاني لأحداثه تمكننا من المصالحة مع النفس ومع الآخر وتساعدنا على العبور إلى مستقبل يكون فيه للإرادة الإنسانية المبنية على العقل والمنطق حق الفعل والتأثير.
ماذا يعني ذلك؟؟ إنه يعني أن إستراتيجياتنا التعليمية في تقديم الكثير من المعارف والعلوم للطلاب في مؤسسات التعليم وخاصة المعارف التاريخية تركز على الأحداث والشخصيات بطرق متناثرة مشتتة تقوم في الغالب على لوم الماضي واجترار آلامه مما يؤدي بالمتعلمين إلى تبني مواقف سلبية من أنفسهم وثقافتهم، ومن الآخر تحصرهم في دائرة الماضي واللوم (لوم الذات ولوم الآخر) دون إدراك للمفاهيم الأساسية المكونة لجملة أحداث التاريخ الإنساني وأدوارنا كبشر وثقافات وحضارات فيها في إطار تفسير معقلن للتاريخ يساهم في تركيب المعرفة وتجاوز الأسئلة الحرجة حول الماضي حين يفهم المتعلم أن التاريخ الوطني والإنساني إنما يروى بروايات متعددة ويحتمل التعدد في التفسير التاريخي، ومن هنا يأتي دور معلمي التاريخ الجدد كي يسيروا بالمتعلمين لفهم التفسيرات المختلفة للتاريخ وفهم عملية التغيير والاستمرارية والترتيب الزمني والسبب والنتيجة.
إن الطريقة الجديدة التي تدعو لها هذه الإستراتيجية لتنمية التفكير في التاريخ تقوم لا على سرد الأعمال والالتزامات التي حدثت في الماضي بل أيضا حول الخيارات والفرص في الوقت الحاضر بحيث تتكشف أدوار الأفراد ومسؤوليتهم وخياراتهم وفرصهم. إنها تقوم على جعل موضوع السلوك الإنساني مفهوما أساسيا لتعلم التاريخ إذ كيف يمكن أن نفسر القرارات التي اتخذها قائد ما في فترة زمنية وماذا كانت ردود الأفعال حيالها وما الخيارات الأخلاقية التي كانت متاحة أمامه وأمام شعبه حين اتخذ قرارات ما. إن تناول التاريخ من هذا المدخل يكشف حجم الدور الفردي ونتائج انتهاك حقوق الإنسان ودور مرتكبي جرائم الحرب والمتفرجين والمقاومين.. تأثير أن يكون الفرد مواطنا يهتم بالآخرين.
إن دراسة التاريخ في إطار مواجهة الماضي يجعل الطلاب يتركون الفصول في نهاية العام وهم يشعرون بالأمل.... إنهم يحتاجون إلى فهم آلام الآخرين ومراراتهم. يجب أن يعوا الرعب الذي ينتاب الناس من جراء الحروب والخيارات غير الديمقراطية للقادة في فترات تاريخية، وبالمقابل فإنهم وبدراستهم للتاريخ سيتعرفون على لحظات اختار فيها قادة تاريخيون أعمالا إيجابية حافظت على الأوطان وسيبدأون بالتساؤل حول أدوارهم كبشر وكمواطنين في استمرار هذا الحفظ الذي سيتحقق من خلال وعيهم بمفاهيم الحقوق الإنسانية الذاتية والوطنية مع العمل على كشف اللحظات التاريخية التي غلبت فيها العنصرية والتحيز مما أدى إلى انتهاكات لحقوق الإنسان نشرت القيم البغيضة للإنسانية مثل التعصب والعنصرية ولوثت القيم الأخلاقية الفردية والإنسانية لشعوب كثيرة عبر التاريخ ولنا في الألمان سابقا واليهود حاليا خير نموذج..
إن ذلك يعني التركيز على تدريس المفاهيم الأساسية للمادة ووضعها كأساس للمادة المقدمة في المنهج وليس الحدث التاريخي نفسه وهو ما يتطلب إعدادا لمعلمي هذه المادة وتدريسا لهم للتخصص يختلف عن مدخل التدريس التقليدي للتاريخ والمتبع في كليات المعلمين حيث تغرق الأقسام طلابها (المتخصصين)!!! بجزئيات الأحداث التاريخية للعصور المختلفة مع التركيز على حفظ التواريخ والأنساب والقبائل والأحداث دون أن يقف الدارسون على المسببات العامة والظواهر المشتركة بين هذه الأحداث ودور الأفراد فيها من قادة ومواطنين مما لا يمكن هؤلاء المعلمين من إدراك المفاهيم العامة لنقلها لطلابهم.
من هنا جاءت هذه الإستراتيجية التعليمية في تدريس التاريخ التي تركز على جملة المفاهيم العامة وتعزز المعنى الشخصي للتعلم مع التأكيد على الأدوار الفردية والخيارات اليومية للناس التي مكنتهم عبر التاريخ من تجاوز ما مروا به للمحافظة على بلدهم وقيمهم. إن ذلك يمكن المتعلم من مراجعة عامة للمفاهيم التي حكمت التاريخ بما يعزز الدقة التاريخية مع إدراك المفاهيم العمومية في تفسير التاريخ حين نعرف الأوجه المتعددة للحقيقة، وأن التاريخ كتب بيد الغالبين وبمن كان إلى جوار السلطة وهو ما يعين الطالب على البحث والتنقيب لفهم الظاهرة، كما يساهم في تكوين ذاكرة جماعية جديدة حول الحقب الزمنية المختلفة بما يسمح بمراجعة نقدية لتاريخ الآخر مقابل الأنا الفردية والجماعية في إطار يعزز المفاهيم الإنسانية المبنية على فكرة الاختلاف الاجتماعي والمشاركة المدنية وقيم حقوق الإنسان.
إن دراسة التاريخ من خلال هذا المنظور وكما يري د. شحاتة سيجعل الطلاب أكثر تسامحا وثقة في المستقبل كما سيعزز أهمية أدوارهم كمواطنين وتأثير تفكيرهم الجماعي على القرارات المتخذة فأوباما تم اختياره كرئيس للولايات المتحدة لأن هناك رأيا عاما يدعم الحقوق الإنسانية للأفراد بغض النظر عن خلفياتهم العرقية وهو ما يجعل الطلاب يدركون حجم تأثيرهم وخاصة في الزمن الحاضر (ومع انتشار مؤسسات المجتمع المدني) بما يجعلهم أكثر حرية في التفكير والتعبير ويعزز إحساسهم بمسؤولياتهم الفردية تجاه القرارات العامة وسيساعد على التخفيف من ظاهرة السلبية والقنوط والإحساس بالعجز تجاه العام التي تجتاح العالم العربي على كافة الأصعدة.
تثبيت الأسس الديمقراطية وتعزيز مفاهيم السلام وحقوق الإنسان مسألة تشترك في تدعيمها الكثير من المؤسسات العامة غير أن المؤسسة التعليمية تعد الأكبر تأثيرا إذا ما قررت تغيير إستراتيجياتها في التدريس وخاصة لمادة التاريخ الثرية من أسلوب التعليم المعتمد على الحفظ والاجترار وتجزئة الأحداث لإعاقة فهم الصورة العامة إلى الفهم والتبصر والتحليل والتفسير وإدراك المفاهيم العامة بما يجعل أسلوب مواجهة الماضي طريقا لتغيير المستقبل.