يظل أبو عبدالرحمن الظاهري (محمد بن عمر العقيل) ظاهرة ثقافية بارزة، وشخصية أدبية لامعة، تتميز بسعة الاطلاع، وتنوع الثقافة، وجرأة الطرح، مما جعله كاتباً ومفكراً مثيراً للجدل، لكنه مثيرٌ للإعجاب أكثر وأكثر، فحظي بمتابعة القراء لمقالاته وأبحاثه الفكرية، وإصداراته القيِّمة. ولأنني واحد من قرائه المعجبين؛ فسأحدثكم عن واحد من إصداراته الأخيرة، حوى الكثير من طرائفه العلمية والإخوانية، وضمَّنه بعض معاركه الصحفية.
إنه كتيب أنيق يقع في حوالي 130 صفحة دَحَاه من الغلاف إلى الغلاف حتى لم يترك بياضاً يتنفس فيه الورق.
ويستفاد مما رسمه المؤلف على الغلاف أن هذا الإصدار هو السفر الأول من سلسلة عَنون لها ب: (معارك صحفية ومشاعر إخوانية وفوائد علمية).
واستهل المؤلف كتابه بخطبة بليغة زينها أسلوب كاتبها، وما عرف عنه من تدفق المعاني ورقي الصياغة وجودة اللغة، وجاء فيها بعد الاستهلال: أما بعد: فإنني خزرت الفضلة من أعمالي الصحفية خلال أربعين عاماً -وكنت مكثراً- خزر الصقور بعد انتقاءٍ سابق ألحقته بمؤلفاتي؛ فوجدت منها ما حقه أن يكون حبيس الأضابير (من المهاترات الصحفية مع الأقران ومن دونهم ومن المراهقات العاطفية الفكرية)، ووجدت ما هو تواشج بيني وبين القارئ من مطارحات ثقافية، أو تداعي ذكريات، أو بث عاطفي كمقالات الرثاء وقصائده.. ولم أبق من المطارحات إلاّ ما هو نقي من المهاترات، وما كنت على يقين بأنه لن يثير حفيظة أو موجدة.
انتهى ما نقلناه من مقدمته التي استغرقت الصفحات من (7) إلى (37) يتدفق فيها كلام أبي عبدالرحمن تدفق السيل الجارف؛ لكنه السيل النقي المحمل بأفضل البذور والمخصبات، فلا يترك شاردة ولا واردة من الفوائد العلمية أو اللغوية أو المواقف المؤثرة، أو الذكريات المؤلمة أو الجميلة إلاّ نفثها في تلك المقدمة التي لا يحسنها إلاّ هو.
بعد ذلك يبحر بنا المؤلف عبر انفعالاته ومعاركه الصحفية التي يبدؤها: بأدبيات الورطة الوذحية مع كل من الشيخ حمد الجاسر والأستاذ سعد البواردي، لكنه يتوقف في وقفات قصيرة أهمها: الوقفة الرابعة: التي وقف فيها عند نظرته للنسب والبداوة، واعتقاده بشأن القحطانية والعدنانية، مع إشارة إلى مشاريعه التأليفية القادمة حول هذا الموضوع، وإصراره على أن العرب -قحطانيها وعدنانيها- كلها من ولد إسماعيل عليه السلام.. ومع أنه لا تثريب على أبي عبدالرحمن في هذا الرأي، لأن المسألة خلافية تحتمل القولين؛ إلاّ أنه الذي يستغرب من الشيخ هو إصراره على عدنانية قبيلة حرب استناداً على قول شيخه ابن حزم، مع أن أبا محمد علي بن حزم لا يعرف حرباً إلاّ بالسماع وما يُعلم بالاستفاضة من كونها (قبيلة حجازية من أشهر فروعها بنو سالم وبنو عمرو وزبيد)، أخذ هذه المعلومة سماعاً، ثم ربطها بما نقله عن كتب الأنساب في عصره التي عرفت فرعاً هلالياً عامرياً اسمه حرب، فدبس المسموع مع المنقول في سطر ونصف، ونقله عنه كثير ممن جاء بعده؛ خصوصاً من أهل الأندلس والمغرب والشام.
لم يذكر أحداً من مشايخها أو أعلامها، ولم يسَمِّ شيئاً من ديارها أو أخبارها باستثناء قوله: إنها بالحجاز، وهذا يعرفه أجهل مغربي أو فارسي حج إلى مكة وزار المدينة، فكيف بأبي محمد الذي لم تطأ قدمه أرض الحجاز؟.
وما كتبه عنها ابن حزم يشبه ما كتبه الباحث المصري د. عبدالرحيم عبدالرحيم الذي أراد أن يُعَرِّف قبيلة بني عمرو التي وردت في سياق وثيقة عثمانية تتحدث عن مناوشة بين أفراد تلك القبيلة وقوة عسكرية تركية حول المدينة المنورة، فما كان منه إلاّ أن نقل تعريفاً لقبيلة بني عمرو أهل رجال الحجر الأزدية وربطه ببني عمرو المدنية الحجازية.. فهل يقدم كلام ابن حزم والحال هذه حجة في نسب حرب يقدم كلامه على كلام أهل الحجاز واليمن الذين نسبوا حرباً للقحطانية قبل الهمداني وبعده؟ ثم يستمر الشيخ في وقفاته التي بلغت عشرين وقفة، مليئة بالإيضاحات المفيدة والتعليقات الطريفة حول مواضيع شتى.
ومن أجملها وقفاته مع الشيخ ابن باز رحمه الله، وهي وقفات تنضح بالثناء على فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وتبين قدره وعلمه، وتلقي الضوء على أخلاقه وسيرته، فجزا الله أبا عبدالرحمن خيراً على طرحه المؤثر، ووفقه لكل خير.