يكاد لا يمر يوم أو أسبوع إلا وتتناثر على صفحات الصحف أو المجلات المحلية أخبار وقصص عن (ابتزاز النساء أو الفتيات) تتفاوت حدتها وقسوتها وإسفافها من حالة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، وإن كانت تجتمع بالكلية تحت باب (الابتزاز).
يتفنن المبتزون في طرائق ابتزازهم، وأساليب حيلهم، وأدوات مكرهم، لا يتورعون عن استخدام كل أداة أو وسيلة، وكل تقنية حديثة، خصوصا الهاتف النقال والإنترنت، لمحاصرة ضحاياهم، وترويعهم، وصولا إلى أغراضهم الدنيئة، ورغباتهم الشيطانية، سواء كانت مالا أو شهوة جنسية محرمة، فالغايات مبررة، والأهداف محددة، والنتائج قاصمة.
هذه السلوكيات والتصرفات الشاذة الإجرامية تستهدف هدم الفضائل، ونشر الرذائل، والعبث الفاجر بأعراض النساء، والاستغلال الوضيع لظروف وسذاجة وأخطاء البعض منهن، دون اعتبار للقيم والمثل العليا التي تحكم أخلاقيات المسلمين في تعاملاتهم البينية، وأدوارهم في هذه الحياة.
هذه التصرفات الشاذة لا يمكن أن تصدر إلا من قبل أشخاص افتقدوا مروءة الرجال، ومكارم الأخلاق، وقيم الأديان والمعاملات الإنسانية، ناهيك عن قيم دينهم، وفضائله، وأحكامه، ومقاصده الشرعية.
لقد اعتنى هذا الدين الحنيف بالإنسان وحقوقه وواجباته وأمنه الفردي والمجتمعي بكل تفريعاتهما، وجاءت مقاصد الشريعة وكلياتها وجزئياتها، لتضع الأسس والقواعد التي تحفظ للمجتمع المسلم وأفراده قيم الخير والفضائل، ونعم الأمن والاطمئنان، وعناصر الاستقرار والتماسك، ومتطلبات البناء والتطور.
ويتمحور جزء مهم من هذه المقاصد حول كليات خمس هي: الدين والنفس والعقل والنسل (العرض) والمال، وتعتبر صيانتها والمحافظة عليها من المقاصد الشرعية الضرورية لتحقيق المصالح ودفع المفاسد والخبائث والمنكرات.
في توصيف للمقاصد الشرعية الضرورية يقول أبو إسحاق الشاطبي في كتابه الموافقات في أصول الشريعة:
(.. فأما الضرورية فمعناها أنها لابد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين.. ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل وقد قالوا إنها مراعاة في كل ملة).
ويقول الإمام الغزالي في كتابه (المستصفى):
(ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح).
وجاءت الأحكام الشرعية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والعقود المالية والعقوبات وغيرها لتحقيق هذه المقاصد والكليات الضرورية إضافة إلى المقاصد الحاجية والتحسينية.
إذن حماية الأعراض والمحارم والخصوصيات الفردية مقصد شرعي ضروري، والإخلال به، أو التفريط
فيه، سوف يجلب الكثير من الشرور والمفاسد، ويقود حتما إلى تداعي المنظومة الأمنية والأخلاقية للمجتمع، كما تداعت في بعض المجتمعات الإنسانية، التي أرخت العنان لثقافة المادة والجنس والشذوذ وسائر الموبقات والمنكرات..
هذا العبث والانفلات الأخلاقي استدعى أن تنهض بعض مراكز البحوث، بإجراء الدراسات التحليلية لاستقراء الأسباب والمسببات التي تدفع إلى مثل هذه السلوكيات الشاذة، واقتراح وسائل المعالجة الممكنة، وأشير هنا، تحديدا إلى الدراسة القيمة التي أعدها مركز البحوث والدراسات بالرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحت عنوان (ابتزاز النساء).
استعرضت هذه الدراسة أبرز وسائل وأساليب ابتزاز المرأة، وطرائق استخدامها، ونماذج من صور الابتزاز والمساومة، وأبعاد وتبعات هذه الظاهرة كما أسمتها، وبيان أسبابها، ثم خلصت إلى عدة توصيات ومقترحات للمعالجة الشمولية، من أبرزها: تشكيل لجنة من الجهات ذات العلاقة، إضافة إلى عدد من علماء الفقه والاجتماع لدراسة هذه القضية أو الظاهرة، واقتراح الحلول الملائمة، وقد تم فعلا تشكيل هذه اللجنة، من عدة جهات حكومية، ضمت وزارات: الداخلية والعدل والشؤون الاجتماعية، والرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهيئة التحقيق والادعاء العام.
وأوصت هذه الدراسة كذلك بإيجاد قنوات آمنة تكفل المعالجة السرية لضحايا هذه النوعية من الجرائم، وتخصيص هاتف مجاني موحد يقوم عليه مجموعة من الثقات لتلقي البلاغات والمعلومات، والتعامل معها بسرية تامة، وأوصت بتفعيل الجوانب الوقائية للمؤسسات المجتمعية، وتشديد العقوبات على جرائم الابتزاز، ومعالجة آثارها نفسيا واجتماعيا وماديا.
من العناصر المهمة التي لم تتطرق إليها توصيات هذه الدراسة ما يتعلق بالأسرة، وتفعيل دورها التربوي والتوجيهي، باعتبارها خلية المجتمع الأولى، ونواته وعماده، وفي أحضانها وقواعدها تتم مراحل التنشئة والرعاية، والتربية والعناية. ومن ثم فإن البناء الأسري السليم يسهم في صلابة البنيان المجتمعي، والعكس تماما صحيح، بدليل أن عينة كبيرة من أصحاب هذه السلوكيات الشاذة نشأت وترعرعت في بيئات أسرية غير سوية، تئن من وطأة الاختلال والتشرذم، ولعل اللجنة المشكلة حاليا للنظر في ظاهرة الابتزاز تركز على دراسة أسباب هذا الاختلال وهذا التشرذم الأسري، ومن ثم صياغة التوصيات والمقترحات بشقيها الوقائي والعلاجي.
بالتأكيد لا يملك المجتمع بمؤسساته ونخبه المختلفة عصا سحرية لاجتثاث هذه السلوكيات المنحرفة، ولكن بالتأكيد يمتلك الإرادة والأدوات القادرة على الحد من اتساع نطاقها، من خلال تشديد العقوبات الشرعية لردع أصحاب الأهواء، والعابثين بالأعراض والخصوصيات الفردية، فإن الله العلي القدير يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. ومن خلال تفعيل أدوار المؤسسات المجتمعية، في سبيل نشر ثقافة الوعي والإدراك بخطورة أمثال هذه السلوكيات، وأهمية التمسك والمحافظة على قيم الخير والفضيلة، والعض عليها بالنواجذ لتظل المنارة والمشكاة التي تضيء طريق العمل والبناء، وتحفظ للناس حقوقهم وأموالهم وأعراضهم، وللمجتمع أمنه واستقراره، وللحياة نسيجها الأخلاقي القويم.