Al Jazirah NewsPaper Sunday  30/11/2008 G Issue 13212
الأحد 02 ذو الحجة 1429   العدد  13212
هات الطين
عادل علي جوده

هالة من الحزن اعتمرت صوت أحد أبنائي، وهو يخبر أخاه في ساعة متأخرة من الليل، بنص عبارة كتبها صديق لهما في أعلى نافذته الإلكترونية، يواسي بها نفسه في وفاة والده! لقد كان الصوت خافتاً، بل يبدو كما لو كان همساً، ومع ذلك لست أدري كيف وصل إلى مسامعنا ليخيم الحزن على البيت كله!

وفي صبيحة اليوم التالي؛ الجمعة 13-11-1428هـ الموافق 23-12-2007م تبين أن الوفاة دماغية، فانشغلت القلوب في الابتهال إلى الله الواحد الأحد المحيي المميت، أن يلطف في قضائه وقدره!

واستجاب الله سبحانه وتعالى، فاستمر الوضع كما هو عليه؛ عقل يتأمل واقع الحال وحتمية الموقف، وقلب يملؤه الرجاء والأمل، فتهيأت النفس لهذه وتلك، حتى جاء أمر الله الكريم الرحيم القائل جلت قدرته {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}؛ حان الموعد، دون تقديم أو تأخير، وانتقلت الروح إلى بارئها ضحى يوم السبت 24-12-2007م، وبقي الفقيد جسداً بلا حراك، ينتظر الصلاة عليه ثم إعادته إلى حيث أمر الله سبحانه وتعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}.

وعقب صلاة عصر يوم الأحد 25-12-2007م، أزيح الستار الخشبي عن ثلاثة نعوش؛ لرجل وامرأة وطفل، وبعد صلاة لا ركوع فيها ولا سجود، اندفع المصلون كلٌ نحو ميتهم، واندفعت مع ابنيَّ نحن نعش والد صديقهما، فحمله الشباب على أكتافهم، وساروا به نحو مرحلة أخرى لا يعلم كنهها إلا هو سبحانه، حاولت جهدي أن أشارك في حمل النعش أو حتى لمسه، إلا أنني لم أستطع! فهمة الشباب (باركهم الله) كانت أشد من همتي، وخطواتهم أسرع من خطوتي!

دخلنا المقبرة القريبة جداً من المسجد، واللسان يُسبح مرتجفاً، والقلب ينتفض خاشعاً، والفكر في ذهول تام؛ فالمكان مهيب، والخطب جلل؛ رحلة إنسان انتهت؛ صوت اختفى، ونبض توقف، وظلِّ لم يعد له على وجه الأرض وجود! سبحانك اللهم لا إله إلا أنت، أنت الخالق وإليك يعود الأمر كله!

وفجأة وجدتني أتجه بسمعي وبصري وكل جوارحي نحو صوت أجش ينادي: (هات الطين.. هات الطين)! خرجت من حالة ذهولي؛ فإذا بالشاب الرائع (عماد) يضع الماء على التراب، ويخلطه، ويصنع منه كرات طينية بملء يديه، ثم يناولها إلى آخر، ومن ثم تنتقل الكرات الطينية بين أيدي الشباب حتى تصل إلى حيث تحكم الإقفال على المتوفى، رحمه الله!

وما إن بدأت مرحلة الدفن، حتى انهارت قوى أبناء الفقيد،وخصوصاً الابن الأوسط الذي أجهش بالبكاء، وخارت قواه تماماً، فلم تعد قدماه تحملانه، إلا أن أصدقاءه كانوا بالقرب منه فأمسكوا به قبل أن يسقط على الأرض! وددت لو أني كنت بقربه فأحتضنه وأمسح دمعتي بخدّه!

تقدمت قليلاً نحو القبر، والفكر مشغول في قول الله سبحانه وتعالى: {...وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}سورة لقمان (34)، وفجأة قفز إلى ذهني صوت ذاك الشيخ الفلسطيني الطاعن في السن، حيث كان يقف أمام بيته في أحد المخيمات الفلسطينية في لبنان، ولغاية في نفس المصور تعمد التنقل بعدسته لينقل للمشاهد حال ذاك المخيم، وحال الرجل وهو يشير إلى بيته ويقول: (منذ الهجرة ونحن هنا في هذا البيت)، ثم أخرج من جيبه مفتاحاً كبيراً وقال، وآثار دموع بادية في عينيه: (وهذا مفتاح بيتي هناك في فلسطين)، وسكت، وكأنه يمنح المصور بعض الوقت كي يتأمل تجاعيد خديه وجبهته، ثم قال وهو يهم بالاستدارة ليدخل باب البيت: (بإذن الله سنعود)!

لست أدري إن كان ذاك الشيخ ما زال حيّاً ينتظر، أم أنه سلّم مهمة الانتظار والمفتاح لأبنائه!

عظم الله أجرك يا فلسطين، ورحم أمواتك، وهدى أحياءك، وعجّل لك بالتحرير ولنا بالعودة إلى ترابك!

{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}

كاتب فلسطيني - الرياض


aaajoudeh@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد