أيام قليلة تفصل بيننا وبين الوقوف ب(عرفة) وسيقف بهذا المشهد الروحاني الجليل ما يناهز مليوني حاج.. وقد تنقص أو تزيد، وهذا شيء لم يحصَ أو يعرف بعد. |
ولكن كل الذي أعرفه وكالمعتاد في كل عام أن الموانئ البحرية والجوية والمنافذ البرية استقبلت وتستقبل الآلاف من (الحجاج) الذين يتوافدون تباعاً لتأدية مناسك الحج. |
وقال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَج عَمِيقٍ}(27)سورة الحج. |
وها هي الباخرة العملاقة (ترسو) في ميناء جدة الإسلامي، وقد أفرغت ما في (جوفها) عن المئات من الحجاج الذين تدافعوا بكثافة نحو صالات القدوم.. وهم زخم من الرجال والنساء.. الذين فاقت أعمارهم الستينيات، وهذا ما تبينته من وجوه الرجال الذين اكتست عوارضهم بالمشيب، والنساء اللاتي أخذت منهن الحياة زهرة العمر وأخذ منهن الوهن مأخذه، فالكل أتى لتلبية النداء مهما كانت المسافات والمدى، الكل أتى لتلبية فريضة الحج، وقد تركوا أهلهم وولدانهم وباع البعض منهم ما يملكه من حطام الدنيا من أجل إسقاط فريضته قبل مماته، والأعمار بيد الله سبحانه وتعالى. |
حين استقلوا الناقلات التي تقلهم من (الميناء) إلى مكة المكرمة، كنت أشاهدهم وأنا أقف على الرصيف بالميناء واستمتع لذلك النداء العظيم (التلبية) وهم مؤتزرون بإيزاراتهم الناصعة البياض (الإحرامات) مرددين (لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) فأخذني النداء بمجامع قلبي فقلت والنفس مشحونة بالعاطفة (اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وتجارة لن تبور يا عالم ما في الصدور يا الله أخرجنا من الظلمات إلى النور). |
فالحج بالنسبة لمعظم هؤلاء القادمين هي أمنية من أماني الحياة، ولا سيما إذا كان من بينهم الفقراء والبائسون والمعدمون الذين ينامون بالعراء ولا يجدون قوت الليلة يسكت مجاعتهم، ومع ذلك فإن الله هو الخالق الرازق فقد أكرمهم وهيئ لهم سبل الحج، وأتوا وقلوبهم خاشعة فرحة مستبشرة يحدوهم الشوق والاشتياق لرؤية بيت الله العتيق (مكة المكرمة) على الطبيعة. |
بالميناء، رأيت الكثير من الحجاج الواصلين من أقطار عربية متفرقة والبادئة على مظاهرهم سمة الفقر والجهل أنهم (الغلابة) حقيقة نتيجة ما يحملونه من متاع يقطع نياط القلب الرحيم عند حمله، وكأنهم غير واثقين بمتعهد (حملة) حجهم وهذا واضح من الأطعمة المعلبة وغيرها من المأكولات المنزلية التي أعدت كتمضية حال، ولا تكلفهم من المال شيئاً وهم بحاجة له، هذا إذا كان لديهم النزر القليل منه، كان الله في عونهم. |
ففي مواسم الحج والعمرة تنشط حركة البيع والشراء وترتفع الأسعار في كل شيء، فربما تناقل الرواة سيرة الغلاء وهذا شيء واضح من أخذ الحيطة والحذر لمثل هذه الظروف حسبما رأيته من الأطعمة في حقائب بعض الحجاج الذين يأتون عن طريق الميناء والمطار، أما الذين يأتون عن طريق المنافذ البرية، فعن الأطعمة حدث ولا حرج، فذلك للاستهلاك الخاص. |
فإذا كانت هذه حياة الإنسان البائس الفقير الذي يتدبر أموره الشحيحة بمثل هذه الطريقة البائسة.. فماذا نقول عن الحياة الباذخة والأصوات الناذخة إن لم تكن البانخة، الذين يتبجحون في حجهم وعمرتهم أمام الملأ أنهم من حجاج ومعتمرين ال(vip) الخمس نجوم، ذات الأسعار التي تصل في معظمها لستين ألف ريال، تكون من نصيب المتعهد بحج هؤلاء (الأثرياء المترفين) اللهم لا حسد، ولكن اللهم إني أسألك اللطف بعبادك الضعفاء، وارحم يا الله أجدادنا وأجداد إخواننا العرب من المسلمين الذين كانوا يحجون على البغال ومشياً على الأقدام فربما هم أكثر وأكبر أجراً نتيجة العناء والتعب والمشقة في سفرهم الراكب منهم والراجل. |
ويا ليت قومي من الأثرياء ورجال الأعمال عملوا تجارة لوجه الله الكريم.. في المشاركة مع أخوة لهم من الأثرياء ورجال الأعمال في الدول العربية، في تبني مشروع خيري كبير مثل (إنشاء جمعية خيرية للحج والعمرة) خاصة للفقراء والبؤساء، ينفق عليها من أموالهم الخاصة ويوكل أمر هذه الجمعية لوزارات الحج بهذه الدول العربية في تنظيم شؤونها فما عليهم إلا الصرف فيما يعادل عشرة آلاف حاج سنوياً، فمثل هذا العمل الخيري الجليل هو أفضل وأبرك تجارة مع الله.. فما نقصت تجارة من صدقة جارية بل تزيد أموال الذين ينفقون من أموالهم في سبيل الله. فقال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}(261) سورة البقرة. |
فتلك هي تجارة لن تبور سعة من الرزق والموارد وراحة بال في المشروعات الحلال، والتي هي أفضل وأبرك وأنقى طهارة، من مشروعات القنوات الفضائية والصرف والبذخ على الفنانات الغانيات الجالبات للسمعة السيئة، على المرء.. وسمعنا وشاهدنا الكثير من المخزيات التي يندى لها الجبين ما بين سطوة المال وأهل (العفن الفني) جماعة الهشك بشك. |
فيا ليت مثل هذه الأموال المهدرة قد أهدرت على قضاء حاجات الناس من الفقراء والبائسين، فمثل هذه المآثر الإنسانية ستبقى خالدة في أذهان البشر.. وها هو الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: |
الناس بالناس ما دام الحياة بهم |
والسعد لا شك ثارات وهبات |
وأفضل الناس ما بين الورى رجل |
تقضى على يده للناس حاجات |
لا تمنعن يد المعروف عن أحد |
مادمت مقتدرا فالسعد تارات |
واشكر فضائل صنع الله إذ جعلت |
إليك لا لك عند الناس حاجات |
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم |
وعاش قوم وهم في الناس أموات |
ويحدوني الأمل أن يكون (القلم) عبر بما في (الطرس) لتكون عبرة لمن يحسن (الدرس) لعل وعسى أن نحسن (الغرس) في الأموال.. فالمال هو مصدر سعادة وعز وجاه إذا أحسن له الاتجاه.. فيما يسعد العباد. |
|