Al Jazirah NewsPaper Sunday  30/11/2008 G Issue 13212
الأحد 02 ذو الحجة 1429   العدد  13212
إنا نراك من المحسنين
عبد المحسن بن معيض الحربي

ذات يوم وفي صباح أبيض مشرق كنت أتحدث مع رفاقي، وأخذ الحديث يجول بيننا، فحدثتهم وقد رمقوني بأبصارهم قائلا لهم: لقد جعل الله الروح والفرح والسعادة وهناء البال وانشراح النفس ونعيم الخاطر في البذل والإحسان والعطاء، فكلما كان المسلم باذلاً محسناً معطاءً: كلما كان له حظ ونصيب من راحة البال وسعادة القلب وفرح الضمير: ولذلك قطع العقلاء بأن للعطاء لذة أعظم من لذة الجمع والمنع، ولا عجب في هذا؛ لأنه متوافق مع القاعدة الشرعية التي قررها الشرع: أن الجزاء من جنس العمل: ومعنى ذلك أن جزاء العامل في الدنيا والآخرة من جنس عمله: فمن أدخل الفرح والسرور على قلوب المسلمين أدخل الله الهناء والراحة على قلبه، ومن أسعد يتيماً وكفاه بماله شر الضياع وصانه بنفقته عن الهوان والحاجة أسعد الله ذريته وحفظهم من شر الجوائح والغوائل، وهذه سنة ربانية ماضية في خلقة لا تتغير ولا تتبدل، قال تعالى: {جَزَاء وِفَاقًا}، وقال تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى:

(يا ابن آدم أنفق أٌنفق عليك) متفق عليه.

فتصور تلك البنيّة اليتيمة كسيرة القلب، غادرت السعادة قلبها لما غادر والدها الحياة، تحب أن تلبس كما يلبس صويحباتها: جاءها معطف على وجه الشتاء ببركة مال ذلك التاجر فكادت تشهق من الفرحة لما رأته، وباتت ليلة ما أطولها، تريد أن ينبلج الصباح لتري زميلاتها معطفها.. هل ترى أن الله تعالى يضيع لهذا المحسن عملاً ؟ كلا والله، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، وقال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}.

وتخيلوا قلب ذلك اليتيم الصغير، الذي انكسر قلبه من اليتم والحاجة، لا يطعم كما يطعم الأولاد، ولا يلبس كما يلبسون، ويسافرون ويتنزهون ويمتلكون الألعاب وعينه ترمقهم من بعيد، جاءه ليلة العيد لباسه وزينة بدنه: فانتشرت الفرحة في كل أنحاء قلبه، واغتبطت نفسه وروحه، وشاركته أمه الفرحة والسرور، هل ترى أن الله ينسى لهذا المحسن إحسانه ؟ كلا والله.. قال تعالى: (وما كان ربك نسياً)، بل ما أقرب رحمة الله من هذا المحسن العاقل، وما أسعده بها (إن رحمة الله قريب من المحسنين).

فاستطردت في هذا المجال، وقد شجعني على الحديث ما رأيت في وجوه أصحابي من تفاعل واستئناس. إلا أن أحدهم رأيت في وجهه شيئاً وكأن لديه ما يقول.

فقلت مواصلاً حديثي: قال ابن القيم رحمه الله: (إن الصدقة تفدي من عذاب الله فإن ذنوب العبد تقتضي هلاكه وشقاءه، والصدقة تفديه من العذاب وتفكه من الشقاء... إلى أن قال: فمن رفق بعباد الله رفق الله به، ومن رحمهم رحمه الله، ومن أحسن إليهم أحسن الله إليه، ومن جاد عليهم جاد الله عليه، ومن نفعهم نفعه الله، ومن منعهم منعه الله خيره، ومن عامل خلقه بصفة عامله الله بتلك الصفة في الدنيا والآخرة) هـ.

لهذا لا نتعجب إذا علمنا أن الشرع قد رتب على الصدقة من الجزاء ما يندهش له المسلم، وخذوا مثلا لذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، وكالصائم الذي لا يفطر والقائم الذي لا يفتر) متفق عليه، وقال صلى الله عليه وسلم: (أتحب أن يلين قلبك وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك) صحيح الجامع.فقاطعني صاحبي معترضا، وقال: إذا كان الأمر كما تقول يا أخي، فلماذا نجد أن تجار الغرب أكثر بذلا من تجارنا، وأهل المال فيهم أعظم نفقة من أهل المال فينا، ونحن نرجو ما لا يرجون، وموعودون بما ليس لهم فيه حظ ولا نصيب من البركة والجزاء والعوض والخلف في الدنيا والآخرة ؟

فقلت له ماذا تقصد؟ بين لي وأفصح عن فكرتك.

فقال: سأضرب لك بعض الأمثلة ليتضح مقصودي:

* بل غيتس مالك شركة مايكروسوفت له مؤسسة خيرية أوقف عليها أربعة وعشرين مليار دولار عام (2000م) وذلك بما يساوي 40% من ثروته.

* مونا هان الأمريكي يتبرع بكل ثروته (بيوته، قصوره، يخوته) لصالح الكاثوليك، وذلك تجاوباً وتفاعلاً منه بعد قراءته لكتاب أحد القساوسة.

* جورج سورس المليار دير الشهير (يهودي أمريكي) له مؤسسة خيرية خص منها ثمانية وعشرين فرعاً في البلاد الإسلامية، يمنح آلاف المنح الدراسية لآلاف الطلاب المسلمين، مؤخرا دعم فروعه في بلاد البلقان ب(350) مليون دولار، والآن يتجه إلى الجمهوريات الإسلامية في آسيا. فهل لدينا في مجتمعنا مثل هذا الإنفاق أو قريب منه؟

فقلت له: أولاً: ً يكفي في تجارنا أنهم أهل توحيد وإسلام ليفضلوا هؤلاء ولو أنفقوا أموال الدنيا، وفي أولئك وأمثالهم قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}، وفي تجارنا وأهل الخير منا قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}.

ثانياً: سأعطيك مثالاً، أو مثالين؛ لترى أن فينا من أهل الخير والإحسان وأصحاب البذل والعطاء من هم سطور مضيئة في سفر التاريخ:

* تاجر بار بدينه وأمته من تجارنا، يكفل عشرين ألف يتيم من أيتام المسلمين ولا يقر له قرار إن سمع بأيتام لم يكفلوا إلا أن يكفلهم، أو يؤمن لهم من يكفلهم: لذلك يلقبه إخوانه وزملاؤه من التجار (أبو الأيتام).

* تاجر من الأخيار لما سمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (بر الحج إطعام الطعام وطيب الكلام) أخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد. آل على نفسه ألا يدخل حاج إلى المملكة إلا ويطعمه، ينفق سنوياً ستة ملايين وجبة ويطعمها الحجاج.

وغيرهم ممن لا نعلمهم، وما كان خفياً من عطائهم وإنفاقهم مما لم يعلمه أحد فعلمه في كتاب عند ربي (لا يضل ربي ولا ينسى).

ثم ختمت حديثي قائلاً: يا صاحبي الإنجازات الضخمة والمشروعات الكبيرة التي قامت بها مؤسساتنا وجمعياتنا الخيرية، إنما كانت بفضل الله ثم بدعم هؤلاء التجار البررة الذين هم بحق عقلاء أذكياء، خططوا لما بعد الموت، ونحسبهم نجحوا كما نجحوا في التخطيط لدنياهم، لهم علامة يعرفون بها في عرصات القيامة، منهم من تجده رفيقا للنبي صلى الله عليه وسلم لكفالته لليتيم، ومنهم من تراه تحت ظل ظليل، وفي أمن وأمان، قد صرف وجهه عن النار في ظل صدقته. إنهم بحق: تجار الدنيا والآخرة.

- مؤسسة مكة المكرمة الخيرية - فرع المدينة المنورة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد