Al Jazirah NewsPaper Sunday  30/11/2008 G Issue 13212
الأحد 02 ذو الحجة 1429   العدد  13212
عائد من اليمن.. (4)
(عدن): بحران.. ومحيط من (الطموح).؟!
عبدالله مناع

عندما تجاوزنا ثلثي الطريق إلى عدن، وبدأ يتراجع تواصل القرى، ويختفي زحام الأشجار والناس.. لفت انتباهي مرافقي الأستاذ وليد الريمي إلى غرفة إسمنتية مهملة، تسلقتها أغصان أشجار طفيلية.. وأحاطت بها بعض بقايا مكتبية اهترأت بفعل تعاقب الأمطار والشموس وعصف الرياح عليها..

قائلاً: هذه هي النقطة الحدودية.. التي كانت تفصل بين (اليمن الشمالي) و(اليمن الجنوبي).. عندما كنَّا (يمنيين)..

قلت له سعيداً منتشياً: إن هذه الصورة الشاحبة التي آلت إليها.. هي خير ما يسعد به ويتمناه الوحدويون اليمنيون على الجانبين، الذين يمثلون اليمنيين جميعاً.. إذا استبعدنا فئات الغواية والهوى من أمثال من يسمون أنفسهم ب(حراك الجنوب) أو (جند اليمن).. أحدث الحركات الانفصالية الضالة!!

على أية حال، كان تنبيهي إلى ذلك الكشك (الإسمنتي) المهجور.. دافعاً لي كي أحفز (العم حمود) للمضي بأكبر قدر من السرعة يسمح به (النظام)، حتى لا يدركنا غروب الشمس.. ويهبط علينا الليل بظلاله وظلامه، فنتحسس دخولنا إلى هذه المدينة.. إلى هذه ال(عدن)، التي أحببتها واشتقت لرؤيتها منذ الطفولة والصبا.. دون أن أدري سبباً لذلك الحب أو الشوق، الذي ظلَّ يلح عليَّ برؤيتها طوال تلك الأيام الخوالي. لقد كنت ساعتها أحسب أنها.. وكأنها أجمل من (أم الدنيا) مصر.. أو فاكهتها (بيروت). ولكن ربما كان السبب الكامن وراء هذا الحب وهذا الشوق.. هو في تلك الأغاني العدنية التي كنَّا نكثر الاستماع إليها صغاراً من المطرب: (محمد الماس).. وربما كان السبب هو تلك (الهالة) التي كان يتحدث بها أخي الأكبر عن (عدن).. أو (بندر عدن) كما كان يستمتع بنطقه افتخاراً..!! وربما كان السبب هو بتأثير دهشتي فيما بعد.. عندما رأيتها على الخريطة لأول مرة: نقطة مربعة على الزاوية الجنوبية الغربية من شبه الجزيرة العربية.. إلى شرقها بحر، وإلى جنوبها بحر، من بعده محيط عريض عميق لا نهائي.. هو المحيط الهندي. لقد هالتني البحار التي تحيط بها.. فزادتني حباً على حب وشوقاً على شوق.. لرؤيتها.

***

كانت ساعة الغروب قد حانت عندما تركنا (محافظة لحج) اللصيقة بمحافظة عدن.. فحمدنا ل(العم حمود) استجابته في سرعة إيصالنا إلى (عدن) المحافظة والمدينة أو العاصمة الشتوية أو العاصمة التجارية أو العاصمة الثانية ل(دولة الوحدة).. فهي كل ذلك معاً، ليسألنا العم حمود: هل نذهب إلى الفندق؟

فقلت: لا.. ليس الآن، فلم نتعجل الوصول إلى (عدن).. لنذهب إلى (الفندق)، ولكن لنرى ما يمكن أن نراه من المدينة في هذه البقية الباقية من ضوء النهار، فاقترح أخي وليد.. أن نذهب إلى أقرب منطقة تطل على كورنيشها على البحر الأحمر.. لنرى واجهتها، ونتابع جمال غروب الشمس الذي أعرفه في تلك المنطقة، ثم نستأنف بعدها طوافنا على ما يريد ضيفنا العزيز (وهو.. يقصدني مشكوراً).

في طريقنا إلى (الكورنيش).. كانت تواجهنا على الجانبين مبانٍ وعمارات جديدة شاهقة جمعت في تصاميمها: بين (الأصالة) المعمارية اليمنية التي رأيتها في صنعاء، وتعز وإب.. وروح التجديد أو المعاصرة في ارتفاعات وأعراض البناء الحديث، وقد جاورتها حيناً، واختفت خلفها حيناً آخر.. مبانٍ متواضعة، هي من إرث الماضي بوجهيه: الاستعماري.. الحريص على كل (شلن) و(بنس)، و(الماركسي).. الملتحف بالعدالة الاجتماعية في المأكل والملبس والمسكن، لنقف عند أول إطلالة لنا على البحر.. وقد بدا موجُه عالياً.. كما بدا زبده كثيفاً ممتداً، وكأنه قوارب صيد صغيرة بيضاء.. على مدِّ النظر.

إذن.. هذه هي (عدن): الأغنية وحديث الفخار، والنقطة المربعة.. في خرائط الجغرافيين وأطالسهم. أن موقعها الفريد.. هو أكبر عناصر تميزها وجاذبيتها.. وهو أحد أهم أسباب الصراع من حولها وعليها، فبعد أن فتحها المسلمون (عام 636م) وعاشت في دعة وسلام قرابة تسعمائة عام، جاءها العثمانيون غزاة محتلين (عام 1538م)، ولم يغادروها إلا بمدافع الأسطول البريطاني (عام 1839م).. لتستبدل المدينة محتلاً بمحتل وإن ارتدى الأول (عمامة)، وارتدى الآخر (قبعة)، إلا أن احتلال أصحاب القبعات سرعان ما امتد شرقاً إلى حدود (عُمَان).. مع تقسيم كل ذلك الجنوب العربي إلى مشيخات وسلطنات، بلغت في نهاية المطاف (العشرين).. ولكنها جميعاً تأتمر بأمر (المفوض السامي البريطاني) القابع في مدينة (عدن): أم الموانئ.. وطريق التجارة البعيدة.. عبر رأس الرجاء الصالح، والقريبة.. عبر بوغاز باب المندب، ولولا ثورتي (سبتمبر) و(أكتوبر) في الشمال وفي الجنوب، ونضالهما الفردي والمشترك.. لما أعلن تخليه عن منزله الجميل في عدن الصغرى.. فرحيله عنها كان في نوفمبر من عام 1968م.. بعد مائة وثلاثين عاماً من الاحتلال!!

***

مع غياب ضوء النهار بغسقه وشفقه.. كانت تسطع أنوار الشوارع في المساء، لنغادر مكاننا.. في طريقنا إلى الجنوب، لنرى الإطلالة الأخرى للمدينة على بحر العرب.. قبل أن نذهب إلى فندق (شيراتون عدن)، الذي تقرر نزولنا فيه والذي فاجأني بهوه ومقهاه الأنيقان في الدور الأراضي.. بمجموعة محتشدة من شباب رجال الأعمال السعوديين الذين قدموا إلى (عدن) لقضاء عطلة نهاية الأسبوع بها، وهو ما جعلني أقول لمرافقي: دعني أضع حقيبتي بغرفتي.. ثم ألحق بك في المقهى، وقد لمع في ذهني عنوان رواية الكاتب المصري الأستاذ إبراهيم عبدالمجيد: (لا أحد ينام.. في الإسكندرية) لأقول في خاطري.. بأن ذلك لا يبدو وقفاً على مدينة (الإسكندرية) وحدها، فهناك العديد من المدن والثغور العربية الجميلة التي (لا أحد.. ينام فيها): فمن ينام في (القاهرة) أو (بيروت) أو (كازابلانكا)..؟ إن (عدن).. هي واحدة منهن.. بالتأكيد.

بعد عشاء سريع وفنجانين متلاحقين من قهوة (الإكسبريسّو).. كنا نغادر الفندق إلى (كازينو الدولفين) الذي اقترحه أخي وليد.. وهو واحد من ثلاثة أو أربعة (كازينوهات) امتدت على (كورنيش) البحر الأحمر أيضاً.. وجميعها تقدم وجبات عشاء إلى جانب برنامجها الموسيقي الغنائي الذي تتخلله بعض (الاسكتشات) المسرحية والقصائد الشعرية. لقد فاجأني ازدحام الكورنيش بالناس والسيارات.. عمَّا كان عليه ساعة الغروب، ولولا براعة (العم حمود) ومهارته لما أمكنه (حشر) سيارتنا في ذلك (الموقف) الضيق والوحيد، ليكون حديث (السياحة) وعنها.. هو شاغلي خلال تلك الساعتين اللتين أمضيناهما في (الكازينو) الغاص بحضور العائلات والعزاب.. وقد افترقا كل على جانب من جانبي (منصة) الكازينو، بينما انتحينا (نحن) جانب البحر للتحدث بقدر ما نستمع، ونستمع بقدر ما نتحدث.. لأقول لأخي وليد - وقد سحرني ليل عدن بنسماته.. وبأصوات مغنييه ومغنياته.. وبتلك الألحان اليمنية والخليجية والمصرية واللبنانية العذبة التي كانوا وكن يغنينها-: من الحق أن تقوم في (عدن) وكالات للسفر.. تقدم برامج سياحية متكاملة لقضاء يومين وثلاثة أو سبعة أيام في عدن شاملة الإقامة وتذاكر السفر في مواسم الخريف والشتاء. شيء كذلك الذي تفعله وتروج له أكبر المدن السياحية وأصغرها. ف(عدن) ليست أم الموانئ على طريق التجارة العالمية فقط.. ولكنها أيضاً مدينة البحار والشواطئ الدافئة، ومدينة السماحة والتعدد والتنوع.. وهي في ذاكرة أبناء الوطن العربي أرض (نضال) وفرحة (انتصار) على ما كان يسمى ب(الأسد البريطاني).

قال: يمكنك أن تتحدث بكل هذا.. مع (المحافظ) إن شئت عندما تلقاه غداً، ولكن دعني أخبرك الآن.. بخبر أظنه سيسعدك.

قلت: وما هو..؟

قال: ستستضيف (الجمهورية اليمنية) دورة كأس الخليج.. ما بعد القادمة، وستكون (عدن) هي المدينة التي ستستقبل شباب الخليج ووفودهم.. حيث ستجرى على ملاعبها المنافسات الكروية.. وحفل الختام، أما افتتاح الدورة فربما يكون في (صنعاء).

قلت.. سعيداً مبتهجاً: حتماً ستكون تلك الأيام من شهر يناير عام 2011م.. هي أكبر مهرجان سياحي شبابي تستضيفه المدينة، وعليها أن تستعد له - ومن الآن - ليس بملاعبها فقط.. بل وبفنادقها ومطاعمها ومقاهيها و(سينماتها) و(كازينوهاتها) ومواقعها السياحية.. وبالترويج الإعلاني الواسع على ما يمكن من القنوات الفضائية التليفزيونية.. حتى تقدم نفسها للعالم كله.. وحتى يراها الناس في صورتها الجديدة الجميلة: العاصمة الثانية لدولة الوحدة.

قال: ليتك تتحدث بهذا إلى المحافظ.. أيضاً.

ودعنا (الكازينو).. وما زال المغنون والعازفون يتناوبون الصعود والهبوط من منصته.. لألحق بغرفتي في الفندق لمتابعة أخبار كارثة العواصف والسيول والأمطار التي حلت بمدينتي (المكلا) و(المهرة).. لأرى الرئيس والوزراء والمحافظون والنواب والصحفيون.. وهم يتفقدون بسياراتهم المناطق الخطرة، ويخوضون بأقدامهم في تلك الأوحال والمستنقعات.. وكل منهم يتحدث من هاتفه، فقد أحدثت العواصف والأمطار والسيول.. خراباً بغير حدود.. فقد انقطع التيار الكهربائي عن معظم أجزاء المدينتين تقريباً، وتوقفت الاتصالات الهاتفية السلكية تماماً، وانزاحت كتل الأسفلت عن مواقعها في الشوارع والميادين.. إلى جانب البيوت التي تهدمت والأسر التي تشردت.. كانت المشاهد محزنة مؤسفة.. تقطع نياط القلب.. لأقفل التليفزيون مع آخر نشرة.. مكتئباً لأبيت ليلتي بين همومي، متيقناً بأن أياً من لقاءاتي المرتقبة.. سوف لن يتحقق.

***

نهضت متثاقلاً في صباح اليوم التالي.. لأغادر غرفتي وكأني أحمل على كتفيَّ حقيبة من الهموم.. وسؤال يلح عليَّ ويزيدني هماً: كيف الخروج من هذه الأزمة المناخية المفاجئة..؟ لأجد مرافقي الأستاذ وليد قد سبقني إلى مطعم الفندق بدور (الميزانين).. فدلفت إليه، ليحتويني (المطعم).. بنظافته وأناقته وحسن ترتيبه.. إلى جانب إطلالته على البحر، ف(البحر) في عدن يحيط بك من كل مكان، وأي مكان.. حتى ليبدو وكأن البحر فيها يبحث عنك.. لا تبحث عنه، فهدَّأ مرآه بعض همي وروعي.. لأتبادل مع أخي وليد تحية الصباح، وليقول لي.. بعد أن انتصف طعامنا: ما أشبه الليلة بالبارحة!!

قلت: كيف..؟

قال: ما حدث في (تعز) بالأمس.. تكرر اليوم، فقد تلقيت اتصالاً من مكتب المحافظ ومن سكرتارية رئيس تحرير صحيفة أكتوبر.. يبلغانني فيه اعتذارهما عن لقائك، بسبب اضطرار الأول للذهاب إلى منطقة (الكارثة).. والثاني إلى (صنعاء) للتنسيق إعلامياً لمواجهة الكارثة، ثم صمت وقد اعتراه شيء من الحزن والأسف.. ليقول لي وكأنه يحدث نفسه: يبدو.. أننا أصبحنا فجأة في (حالة طوارئ) حقيقية.

قلت مهوناً: لا عليك.. فليس بمقدور أحد أن يمنع قدراً أراده الله.. إلا ب(الدعاء) في أن يلطف به، ويرحم عباده.

ثم صمتنا.. لنتأمل معاً برنامجي بعد هذين المتغيرين، ولأستأنف الحديث معه.. قائلاً: إنني آسف فعلاً.. لفوات فرصة اللقاء ب(المحافظ)، فقد كان لديَّ رغبة حثيثة في الاستماع إليه.. لمعرفة خططه وبرامجه وأحلامه نحو هذه المدينة الصغيرة بحجمها وسكانها، والكبيرة بتاريخها، والفاتنة بموقعها.. كما كان لديَّ في المقابل الكثير مما أود أن أقوله له. أما لقائي بالزميل العزيز رئيس تحرير صحيفة أكتوبر.. فقد كان ل(التعارف) و(الحوار) معه حول أكتوبر الصحيفة، وأكتوبر الثورة (1917م).. وما انتهت إليه مبادئها على يد (جورباتشوف) و(يلتسين) بعد ثلاثة وسبعين عاماً، وهو لقاء وحوار يمكن تأجيله.

قال.. متحفزاً: وماذا كنت تريد أن تقول ل(المحافظ)..؟

- كنت أريد أن أتمنى عليه ثلاثة أشياء: أن يحافظ على (عدن القديمة).. فهي ذاكرة المدينة وتاريخها الذي يجب ألا يُنسى، وأن يمد (كورنيشها) على البحر الأحمر.. إلى أقصى حد يمكنه.. فما لا يحتاجه اليوم منه سيحتاجه غداً، وأن يحاول توسعة (كورنيشها) على خليج عدن وبقدر ما يستطيع، وأن يقوم هو و(المجلس المحلي) بتشكيل اللجان المختلفة.. والخاصة بإعداد الترتيبات الفنية و(اللوجستية) لاستقبال دورة كأس الخليج لعام 2011.. ومن الآن.

قال وقد أخذته بعض الحماسة: والآن.. كيف تريد أن يكون برنامجنا..؟

قلت وعلى الفور: الذهاب مجدداً لرؤية (واجهتي) المدينة في رابعة النهار، فالطواف بالمدينة القديمة التي عبرنا بها ليلة البارحة على عجل، ثم نستعد ل(المغادرة).. وعندها سيكون وداع (عدن) مضمخاً - في قلبي دون شك - بالكثير من الأسف.

ليضيف أخي وليد قائلاً: لقد حرَّصني (سعادة الوكيل).. على اصطحابك لزيارة (صهاريج عدن) التاريخية التي كان يستقي منها ويعيش على مائها.. كل سكان عدن في (الزمانات) الماضية..؟

قلت: لا بأس.. لنلملم أنفسنا وننتقل إلى السيارة التي كان (العم حمود) ينتظرنا على مقودها.

***

كسباً للوقت، فقد حكمت جولتنا هذه.. جغرافية المكان، فبدأنا ثالثةً ب(كورنيش عدن) على البحر الأحمر.. وقد ترجلنا لنسير فوقه على أقدامنا، وسط هواء صباحي بحري منعش، فبدا (الكورنيش).. رحباً، واسعاً عريضاً.. بشاطئ رملي جميل للسباحة، يوازيه رصيفان عريضان على مستويين مختلفين: أحدهما لأكشاك بيع المستلزمات الصغيرة للمصطافين.. تتخللها على امتداده مظلات وجلسات لشرب المرطبات والشاي والقهوة وما شابهها، والآخر على مستوى أدنى ل(المشاة)، ثم يأتي بعدهما الطريق بمساراته الثلاث في الذهاب وفي الإياب وقد توسطته جزيرة لما تكتمل زراعتها بعد، يقابل كل هذا على الجانب الآخر.. الأراضي والمباني السكنية التي كانت تسطع في صفها الأول خمسة أو ستة مبانٍ في لمساتها الأخيرة، ليقول لي أخي وليد: ستكون فنادقاً وأجنحة سكنية.. استعداداً لدورة كأس الخليج القادمة، ثم ليضيف قائلاً: إن كل هذا الذي رأيته على هذه الصورة قد تم تشييده وبناؤه مؤخراً.. وبعد قيام الوحدة.

ثم انطلقنا بعد ذلك صوب المدينة القديمة ليلفت انتباهي فيها أولاً: شوارعها المستقيمة، وأرصفتها المنتظمة، ومبانيها المتسقة الارتفاعات، فجميعها ما بين ثلاثة وأربعة أدوار.. مع وجود عدد من المباني البريطانية الضخمة التي تكرها البريطانيون خلفهم، على أن نظافة المدينة.. كانت ملحوظة وملموسة، وإن كان لا علاقة بين نظافة المدينة اليوم.. وأمسها البريطاني، لكنني لم أجد ذلك الإبهار الذي سمعت عنه، وكنت أبحث عنه.. إلا أنني قد أتصور أن مدينة عربية بهذه المواصفات في الثلث الأول من القرن العشرين لابد وأن تكون (مبهرة) في عيون من كانوا يرونها في تلك الأيام.. مقارنة بما حولها من مدن المنطقة!

على أية حال، قبيل أن ننتقل.. إلى واجهة عدن البحرية الجنوبية، المطلة على خليج عدن والبحر العربي.. عرجنا لنرى (الصهاريج العدنية) التي اقترح أخي الأستاذ الشاهر زيارتها.. وقد كان على حق، فهي ليست (صهاريجاً) كتلك التي أعرفها.. ولكنها شيء ضخم كبير، أقرب ما يكون إلى محطة استقبال ضخمة لمياه الأمطار التي تتدفق على المدينة من جبالها ومرتفعاتها المحيطة بها من الشمال ومن الشرق.. وقد أقيمت لها مستودعات هائلة ذات مناسيب متفاوتة لاستقبال وحفظ المياه. لكأن ذلك (العسكري البريطاني) الذي قام بترميمها بعد أربعة أعوام من احتلال المدينة.. قد أراد أن يخلد نفسه بهذا العمل المتقن الذي تركه، وبتلك اللوحة التي ترك عليها اسمه والتي تروي قصة ترميمه لها.

***

مع مغادرتنا (الصهاريج العدنية)، ووصولنا إلى واجهة المدينة الجنوبية.. كان أخي وليد يطلب من (العم حمود) التوقف عند أول وأقدم ميناء على خليج عدن.. لأرى ذلك الميناء، الذي كان وكأنه كهف بين مرتفعين صخريين.. وعلى يمينه انشغل بحارة وصيادون بأسماكهم وشباكهم.. وعلى يساره اصطفت مراكب شراعية متفاوتة الأحجام، ليقول لي أخي وليد: من هنا دخل المحتلون البريطانيون (عام 1839م) بعد أن قصفوا المدينة من بوارجهم.

قلت له: إن خبراً كهذا يعطيني معنى إضافياً لفرحي وغبطتي بزيارة هذه المدينة. لقد امتدت خلف هذا الميناء - فيما بعد - طريق معلقة جميلة ومثيرة.. بها العديد من المباني وبعض المقاهي، وقد كنا نريد أن نتوقف في واحدة منها لولا شدة زحام السيارات التي أخافتنا من ضياع وقت نحن أحوج ما نكون إليه، لنغادر المكان إلى موقع آخر من مواقع الواجهة البحرية الجنوبية الكثيرة ل(عدن) نظراً لكثرة خلجانها وصخورها وشواطئها، وهو الأمر الذي جعل في تلك الواجهة أكثر من (كورنيش) وأكثر من ميناء، فهناك الميناء العسكري القديم.. والميناء التجاري (الحر) الذي تتولى تشغيله إحدى الشركات (الإماراتية).. وميناء الغاز الطبيعي الذي يجري تشييده بالاتفاق مع الحكومة القطرية، فاتجهنا إلى موقع آخر من الكورنيش، كان ملفتاً بزحامه وبالأوناش والرافعات التي ملأت رصيفه.. ومن خلفه كنا نرى العديد من البواخر التي كانت لا تبعد عنَّا بأكثر من خمسين إلى مائة متر.. ليقول لي أخي وليد: من هنا ضُرب المدمرة الأمريكية (كول).. وبدأ العالم يقوم ويقعد لقصة ضربتها، لأقول لأخي وليد: يحسن بنا الآن.. أن نأخذ فنجاناً من القهوة، ثم تلفت يميناً وشمالاً.. لأجد أمامي مقهى عصرياً جميلاً على الجهة المقابلة.. يديره (نادل) يمني أممي: تربى في (جدة)، وعاش في (نيويورك)، وعمل ويعمل في (عدن).. هناك جلسنا وأخذنا نتذكر كيف كانت قصة دخول البريطانيين من ذلك الميناء (الكهف)؟ وكيف كانت ضربة (كول).. من هذا الميناء (المزدحم)؟

لنغادر (عدن) بعد ساعة.. ومعنا حبنا لها الذي حملنا إليها. لقد زاد.. ولم ينقص، فعدن هي هذا البحر.. وهي هذه الخلجان.. وهي هذا الطموح الذي لا حدود له في الغد.. والذي ترعاه بحماس شديد دولة الوحدة اليمنية.

(الحلقة الأخيرة بعد إجازة العيد)
عبدالله مناع-جدة



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد