بتواصل لا يكل ولا يمل، وبجهود مضنية لا تقنط أو حتى تيأس، تستمر جماعات وتنظيمات القرصنة والإرهاب، في استنزاف القوى والإمكانيات والثروات والقدرات العربية والإسلامية من أقاصي جنوب اليمن إلى تخوم شمال لبنان، ومن جبال أفغانستان والباكستان حتى سهول ووديان المغرب العربي.
تحدث باستمرار هذه السلوكيات والأفعال والسياسات المشبوهة من قبل بعض من دأبوا منذ قرون طويلة من الزمن الخروج على شرعية الجماعة الإسلامية والتلاعب بأمنها واستقرارها، والتنكر لها بمقارعة الحقائق بالأباطيل ومواجهة الواقع الحقيقي بالمثاليات المضللة، وبالخروج على إجماع الأمة بلغة العنتريات والعصبيات المضرة بصالح ومصالح الجميع.
من جانب آخر، وكعادته دائماً، استبق نائب زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري تطور الأحداث الأليمة التي تحدث في المنطقة، وخرج على المستمعين برسالة صوتية مسجلة هدد فيها وتوعد، ووضع خطوطاً حمراء لواقع ما يحدث في العراق وأفغانستان. من ذات المنطق، وانطلاقاً من ذات الهدف، سيطر القراصنة الصوماليون على سفينة الشحن السعودية النفطية مطالبين بفدية كبيرة مقدارها 25 مليوناً لقاء إطلاقها ومن فيها من أفراد الطاقم، وهددوا بتفجير السفينة وقتل أفراد طاقمها إن لم تلبِ مطالبهم.
بالطبع المنطق هذا هو منطق القراصنة في العصور القديمة، بيد أن الفرق يكمن في لغة الفدية المطلوبة ومنطق التهديد وآلياته، خصوصاً بعد نمو حالات أخرى خطيرة من أعمال القرصنة البحرية في البحر الأحمر والبحر العربي في القرن الواحد والعشرين. هذه التطورات تدعونا للحديث في القضية وطرحها على طاولة البحث والتمحيص بعد تنامي حدة القرصنة في المنطقة وحالة التصعيد العسكري الجريئة المصاحبة لها.
هي بالفعل ظاهرة سلوكية إنسانية قديمة يعول عليها البعض ممن خرجوا على القانون والشرع من أجل لقمة العيش أو من أجل متعة اللهو وملء الفراغ، وهي بالفعل ظاهرة إنسانية كان من المفترض أن تنقرض كما انقرضت الديناصورات من قبلها لعدم تلاؤم وتواؤم البيئة الدولية مع مطالبها ومتطلباتها وتبعاتها، لكن مع الأسف أثبتت ظاهرة القرصنة (كظاهرة الإرهاب) عتاقة معدنها وصلابته في خضم وجود وبقاء ظروف بيئية إقليمية ودولية متوترة تساعد على حياة ونمو الحمض النووي لهذا النوع من سلوكيات وأفعال البشر؛ لذا من الواضح أنها ستبقى كظاهرة إنسانية فقاعية مؤقتة رغماً عن خطورتها، لكن لا يمكن لها أن تستمر نظراً لتهديدها لمصالح الدول القومية وللشرعية القانونية للمجتمع الدولي.
ترى هل من المعقول أن المنطقة هذه في حاجة إلى المزيد من أفعال وسلوكيات التوتر والعنف والجنوح؟ هل الوضع في المنطقة يحتاج إلى كميات تضخم إضافية في أعداد جماعات البغي والعنف والضلال والعدوان الذين يصلون برها وبحرها وجوها بنيران من العنف والإرهاب؟ تحديداً سواء أكان الإرهابيون أم القراصنة أم الخوارج، هؤلاء جميعهم دأبوا على استنزاف جسد الأمة العربية والإسلامية من داخلها ما أن تبدأ في استعادة عافيتها من مصائب مضنية حلت بها، أو ما أن توشك على التقاط أنفاسها من وقع هذه المصيبة أو تلك أو من تداعيات تلكم الكارثة أو هذه.
الذي يمكن نظمه وقوله يتمحور حول أهداف وغايات جماعات الباطل من العنف والبغي الذي يصعدون من مخاطر الإرهاب والقرصنة بغية استنزاف دول وشعوب الأمتين العربية والإسلامية؛ فمن يهدد واقع ومستقبل دولة اليمن لا يختلف عمن يهدد شعوب أفغانستان والباكستان والعراق. إن جميع هذه الدول بشعوبها تواجه مخاطر غير محددة أو حتى مسبوقة وتقف على شرفة جبهة عنف واحد موحدة تشن ضدها، هدفها الإبقاء على حالة التردي والضياع والتأخر المحيقة بها.
وتتضح معالم المشكلة بوضوح في عدم قدرة البعض ممن ينتمون إلى فروع المنطقة وأطيافها بل حتى ممن يرجعون إلى متونها، على معرفة؛ ومن ثم فهم واستيعاب ضرورة وجود الاختلافات والتنوعات للأطياف الفكرية البشرية الأخرى والحرص على احترامها بالتعايش معها؛ فالتعددية هنا لا تعني أن يكون واقعها ضاراً أو مضراً، ولا أن تكون وجهتها ضالة أو مضللة، ناهيكم عن أن تكون ضرباً من ضروب الكماليات التي تنقصها الفعالية المزدوجة أو الفعاليات المطلقة.
مشكلة المنطقة برمتها لا تكمن وحسب في وجود مثل هذه التنظيمات والفئات، وإنما في تنوع وتعدد المرجعيات الفكرية والعقدية والمذهبية والطائفية التي ترتع في أحضانها جماعات المصالح من كل اتجاه داخلي أو من كل فيض خارجي.
الإرهابيون وهؤلاء القراصنة يؤمنون - مع الأسف - بأهمية التنوع والتعدد في استيعاب وتقبل شرائح التبعية الفكرية والعقدية لتنظيمات العنف والقرصنة والإرهاب لتحقيق مصالح فئوية محددة، فيما يرفضون بتعنت قاعدة ضرورة وأهمية تبني وتقبل التعددية الفكرية والتنوع الثقافي والحضاري التي تحقق التعايش بين كل المجتمعات الإنسانية وتضمن بقاء الجميع.
من هنا فإن القراصنة بأفعالهم أو ممن ساروا قبلهم على ذات النهج من التنظيمات الإرهابية لا يمكن أن يستقر بوجودهم حال المنطقة إلا إذا ما تم استئصالهم بمختلف وسائل الاستئصال المشروعة بعد أن بات في حكم المطلق استحالة صلاح حالهم أو استقرار أحوالهم بما يرضي شرع الله وجموع أمته.
drwahid@email.com