منذ عامين زارني قائد القوات البحرية المكونة من تسع عشرة دولة، وهي الدول التي تتولى ملاحقة الإرهابيين والمهربين، وتجار السلاح غير الشرعيين في البحر العربي، والبحر الأحمر بقيادة القوات البحرية الفرنسية، وأثناء الحوار سألته عن تهريب البشر والقرصنة، قال بأن ذلك ليس من واجب قواتنا، وقتها أدركت أن الخطر قادم.
واليوم نجد أن أعمال القرصنة تصاعدت، وأخذت أبعاداً خطيرة. إن عدم الاهتمام بها جعل منها أزمة عالمية طغت على الأزمة المالية والاقتصادية التي يواجهها النظام المصرفي العالمي، كما فاقت أحداث العراق وأفغانستان في أهميتها، فأصبحت تهدد طريق التجارة العالمي، وتعرض قناة السويس للإغلاق.
فمركز (شاتام هاوس) للدراسات والأبحاث المتخصص في السياسة الخارجية يحذر من أن زيادة أعمال القرصنة التي تجري حول خليج عدن قد تؤدي إلى كارثة إنسانية وبيئية في منطقة القرن الإفريقي، وإلى توقف مسار الرحلات التجارية والعالمية عبر قناة السويس، ويطالب المركز بإيجاد قوة بحرية دولية في المنطقة للتصدي لعمليات القرصنة. إن سبب هذا التصعيد يكمن في غياب حكومة قوية في الصومال، وفتح شهية القراصنة بالمفاوضات معهم، وتسليمهم عشرات الملايين من الدولارات حتى تجاوزت الثلاثين مليونا من الدولارات، مما جعلهم يطورون أعمالهم الإجرامية.
لقد كان لاستيلاء القراصنة على السفينة الأوكرانية المحملة بالأسلحة الثقيلة، وطلبهم فدية تبلغ 20 مليون دولار مقابل إطلاقها مع طاقمها المكون من21 شخصا موقع الصدمة، لكن الصعقة الكبرى عندما استولى هؤلاء على ناقلة البترول السعودية من خط الملاحة الدولي على بعد ثلاثمائة كيلو متر، واقتادوها إلى الموانئ الصومالية.
كما أن التقارير تقول بأن السفن المحتجزة بلغت 15 سفينة، وشارف عدد أفراد الأطقم من الرهائن على ثلاثمائة فرد؛ حيث يطالب أصحابها بفدية مالية عالية، كما أن قيمة التأمين على السفن التي تعبر خليج عدن قد ارتفعت بنسبة كبيرة، مما يرغم شركات الملاحة على الانصراف عن قناة السويس والتوجه نحو رأس الرجاء الصالح. أما المخاطر المستقبلية، فتنجم عن إمكانية التحالف بين القراصنة والإرهابيين، مما قد يعرض الملاحة البحرية إلى أعمال إرهابية تدمر السفن، وقد تغلق من جرائها المضائق، إما بإغراقها بقناة السويس أو بباب المندب، كما أن هذه الأعمال قد تتسبب في إعاقة وصول مواد الإغاثة للصومال التي تصل إلى 185 طنا تحت حماية كندية، مما يورث كارثة إنسانية.
ما أن جرى الاستيلاء على الناقلة السعودية العملاقة (سيورس ستار) يوم السبت 14 نوفمبر بعد اختطافها في المحيط الهندي قبالة مرفأ (هرارديري) الذي يعتبر من معاقل القراصنة على بعد300 ميل، هبَّ العالم يبحث عن الحلول، وجرت اتصالات أمريكية عاجلة في مجلس الأمن لمواجهة القراصنة في المحيط الهندي، وتمكنت البحرية الهندية بنجاح من تفجير سفينة للقراصنة، وتبرعت عدة دول بإرسال قطع بحرية مثل اليابان وكوريا الجنوبية إلى المنطقة.
أما دول البحر الأحمر فقد سعت إلى عقد اجتماع تشاوري عاجل على مستوى كبار المسؤولين بدعوة من مصر يوم الخميس 20-11-2008م يضم كلا من: المملكة العربية السعودية ومصر والأردن واليمن والسودان في القاهرة، لبحث الوسائل والتدابير والإجراءات المشتركة التي يمكن اتخاذها، كي يظل البحر الأحمر خاليا أمام الملاحة الدولية من خطر القراصنة.
أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلنت يوم الأربعاء 21 ذي القعدة الموافق20 نوفمبر 2008م عن اتخاذها عدة إجراءات لمواجهة خطر القراصنة المتصاعد قرب السواحل الصومالية، وفي منطقة خليج عدن وبحر العرب.
فالقراصنة الذين اختطفوا السفينة السعودية العملاقة التابعة لشركة أرامكو، والتي تتولى تشغيلها شركة (فيلا إنترناشونال مارتن) التي تتخذ من دبي مقرا لها، قد انطلقوا على ظهر ثلاثة زوارق سريعة مجهزة بالأجهزة الإلكترونية المتقدمة، وبالأسلحة الشخصية، والصواريخ من منطقة مقديشو العاصمة، واقتادوها قرب هرارديري، وهي واحدة من المرافئ التي يستخدمها القراصنة الصوماليون فيحشدوا فيها السفن المختطفة التي بلغت 14سفينة محتجزة في انتظار تلقي الفدية مقابل الإفراج عن السفن وطواقمها.
وتعتبر هذه العملية أكبر قرصنة في التاريخ، وتشكل تحدياً للقوة البحرية الدولية، وقد أعلن الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية بأن المملكة لا تحبذ التفاوض مع القراصنة والإرهابيين، لكن مالكي الناقلة يتفاوضون معهم، وذلك شأنهم، كما صرح (بيلي محمود قابوساد) مستشار رئيس منطقة (بونتلاند) الصومالية التي أعلنت استقلالها من جانب واحد قائلا: لقد تلقينا معلومات، ونعرف الآن أن السفينة راسية قرب هرارديري، وأن القراصنة خرجوا من مقديشو قبل عشرة أيام من خطف السفينة السعودية.
أما (فرح عبده جامع)، وهو من المختطفين، فقال في تسجيل بثته قناة الجزيرة: (إن هناك مفاوضين على متن السفينة، وعلى الأرض، وحالما يوافقون على الفدية سيتم إحضارها إلى السفينة نقدا، وسنضمن وقتها سلامة السفينة التي تحمل الفدية، وسنقوم بعد النقود (آليا)، وحذر من أن لديهم أجهزة للتعرف على النقود المزورة، لكنه لم يحدد قيمة الفدية المطلوبة.
وبسبب الأموال الطائلة التي اكتسبوها من الفدية، والتي حصلوا عليها من السفن المخطوفة تمكنوا من تطوير أدائهم، فاستخدموا تكتيكات مطورة، إذ إنهم كانوا في السنوات الماضية يختطفون السفن الصغيرة التي تمر بالسواحل الصومالية أو قريباً منها، أما اليوم فقد توغلوا في الأعماق، وهذا ما لا يتسنَّى للسفن الصغيرة والزوارق أن تصل إليه، مما مكنهم من الوصول إلى خط الملاحة العالمي.
لقد أصبح لديهم محاسبون وتقنيون وعمال، كما قسَّموا أعمالهم إلى ثلاثة أقسام: قسم إداري ينتظر في الموانئ يتولى شؤون الخاطفين، واستلام المبالغ، وعدها، وتحويلها إلى الأماكن الآمنة، والعمل على شراء الأسلحة والمعدات، وقسم للأمن والسلامة والحراسات للسفن المخطوفة، والرهائن وحمايتها، والقسم الثالث هو العمليات، وهم الذين يقومون بالتخطيط، ومراقبة السفن وقرار الاستيلاء عليها، وإجبارها على السير إلى الموانئ المعدة لذلك.
إن هذا الأمر يدل على أن الذين يقومون بهذه الأعمال هم من العسكريين الذين كانوا يعملون في البحرية الصومالية، وهناك تعاون مع بعض العسكريين من الدول المجاورة، كما أن هناك دولا تتعاطف معهم، فالعصابات يصعب عليها شراء السفن والزوارق بهذا المستوى.
لقد تمكنوا في وقت قصير من تأمين مستلزماتهم العسكرية والمدنية، فقد حصلوا على أسلحة متطورة، كما حصلوا على معدات إلكترونية حديثة تؤمن اتصالهم بالأقمار الصناعية، أما تكتيكاتهم البحرية فقد أمنوا سفينتين كبيرتين تتمكنان من الوصول إلى أعالي البحار تحمل داخلها زوارق سريعة لملاحقة السفن، فتتولى السفن الكبيرة نقلهم واقترابهم من السفينة التي قرروا اختطافها، وحين الاقتراب منها تنطلق الزوارق السريعة المسلحة لإجبار السفينة على الاستسلام.
لقد وزعوا السفينتين؛ إحداهما عند ميناء عدن شرق الصومال، والأخرى في الجنوب الشرقي لاعتراض الخط البحري الدولي، وبهذا انتقلوا من القرصنة على الشواطئ إلى القرصنة في أعالي البحار، لكن البحرية الهندية التي اشتبكت مع سفينة القراصنة الناقلة للزوارق ودمرتها أحدثت شللا جزئيا في عمل القراصنة، إذ لم يبق لديهم إلا سفينة واحدة من حملة الزوارق السريعة.
إن التعامل مع هذه الظاهرة يتطلب خطة إستراتيجية من شأنها التحرك في عدة اتجاهات، اتجاه سياسي يتولى الاتصال بالدول المجاورة، والقيادات والقبائل في الصومال، ودول العالم للتعاون على محاربة هذه الظاهرة والقضاء عليها، ومنع تكرارها.
كما يتطلب الأمر خطة أمنية من شأنها الحصول على المعلومات الدقيقة عن نشاط القراصنة وتكتيكاتهم، والتعرف على الجهات التي تدعمهم، وتأمين الحراسات داخل السفن وخارجها.
أما الخطوة العسكرية فتتطلب بعد الوقوف على تكتيكاتهم وأعدادهم وإمكاناتهم وضع خطة من شأنها إغراق سفنهم حاملة الزوارق السريعة حتى لا يتمكن من نقلها إلى داخل البحار، وبهذا يمكن حصر العملية في الشواطئ.
ثم تأتي المرحلة الثانية بتشكيل قوة دولية لمراقبة الشواطئ الصومالية، وإغراق أي سفينة مشتبه بها حتى تصبح المنطقة نظيفة من القراصنة، ومنع تكرار هذه العمليات.
إن إهمال العالم للمشكلة الصومالية هو الذي تسبب في هذه الظاهرة، لقد أصبحنا في عالم لا يمكن أن نتجاهل فيه الأزمات، وأن نترك أهلها يعانون منها، فهناك أزمات تقتضي الاستعجال في حلها، وعلى رأسها مشكلة فلسطين ودارفور، ولابد من التدخل في القضية الصومالية، ومساعدة أهلها على وضع الحلول المناسبة، فالعالم قد أصبح في قارب واحد.
Email-eshki@doctor.com