كان يخطط لتمضية ما تبقى من عمر له في حياته في ممارسة لعب الجولف والسفر في أرض الله الواسعة لرؤية عالم آخر حرم نفسه منه طوال سنوات شبابه التي أفناها بالعمل الجاد والتخطيط المالي الناجح خلال ما يعتقد أنها السنوات الذهبية للاقتصاد الأمريكي، لدرجة أنه كان يخطط لكتابة قصة حياته الناجحة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً؛ لتستفيد منها الأجيال القادمة، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفينة السيد إيدي وايتلوك من ولاية جورجيا الأمريكية والبالغ من العمر خمسين عاماً، والذي يخطط للتقاعد في العام 2013م، وهو كغيره من ملايين المواطنين الأمريكيين العاملين الذين يمثلون الوقود الحيوي للرأسمالية الغربية التي قذفت بهم وبمدخراتهم إلى دهاليز المجهول مع اشتداد وطأتها خلال الشهور الثلاثة الماضية. ويعتقد السيد إيدي أن خطة التقاعد السابقة سوف تتأخر إلى عشر سنوات قادمة إن لم يكن أبعد من ذلك، حيث لا يستبعد استمراره بالعمل حتى مماته بعد أن عصفت الأزمة الحالية بمعظم مدخراته التقاعدية.
وعلى النقيض من تلك الحالة تعتبر حالة السيد جاري لارسن البالغ من العمر 62 عاماً أكثر غرابة من سابقتها؛ فهو متقاعد منذ سنتين بعد أن أمضى أربعين عاماً في العمل في قطاع النقل، ويستمتع طويلاً بلعب الجولف والجلوس كثيراً مع أبنائه وأحفاده ولديه من المال ما يكفي لدفع جميع فواتيره، ولكنه تخلى عن كل ذلك (مرغماً)، واضطر إلى الرجوع للعمل في شركته السابقة التي تقاعد منها قبل سنتين بعد انهيار الكثير من مدخراته التقاعدية في أسواق المال الأمريكية، والأسوأ من ذلك هو امتناع شركته السابقة مؤخراً عن الاستمرار في توفير التأمين الطبي له ولزوجته؛ لذا وجد السيد جاري نفسه أمام خيارين أحلاهما مرٌّ؛ فإما العودة للعمل وإما الاستمرار في صرف ما تبقى من مدخراته والانتظار لمعرفة ما ستؤول إليه خطط الإنقاذ الحكومية وهو الخيار الذي لا يحبذه السيد جاري لعلمه بأن ما يحدث هو خارج السيطرة ولا أحد يعلم ما الذي يحدث بالضبط ولا متى سينتهي هذا الكابوس المرعب.
إن تبخر تريليونات الدولارات من مدخرات التقاعد لملايين الأمريكيين دفع بالكثيرين ممن هم قريبون من التقاعد أو ممن تقاعدوا حديثاً إلى إعادة النظر في تقاعدهم والقيام بعملية تكيف صعبة جداً لم يعتادوا عليها منذ ثلاثينيات القرن الماضي، والتي دفعت بكثير منهم إلى أن يتناسوا مجرد التفكير في رسم خطط قريبة للتقاعد من العمل.
ولا تختلف السيدة جين بيكورا البالغة من العمر 63 عاماً، وهي لا تزال على رأس العمل في مجال المحاماة في ولاية فيرجينيا، عن غيرها من ملايين الأمريكيين؛ فهي تعترف بأنها غير قادرة على ختم حياتها المهنية كما يجب، وعلى عدم قدرتها على توفير أية سيولة إضافية لترميم الثقوب الكبيرة في استثماراتها التقاعدية التي خسرت 70% من قيمتها السوقية خلال الشهور الثلاثة الماضية، علماً بأن استثماراتها التقاعدية قد مرت سابقاً بتجربة قاسية في الحادي عشر من سبتمبر في 2001م ولم تتمكن من استعادة ما خسرته آنذاك إلا في سبتمبر 2007م، ولكنها الآن تندب حظها العاثر لرفضها بيع ما تمتلكه من أسهم حينذاك وقبل أن تتلقى محفظتها التقاعدية الضربة القاضية في سبتمبر 2008م، فهي لم تكن تأبه لنصائح خبراء الاستثمار الذين ينصحون كبار السن ممن يطرقون أبواب التقاعد بضرورة القيام بعملية إعادة مراكز لمحافظهم الاستثمارية والخروج من الاستثمارات ذات المخاطر العالية كالأسهم والدخول في استثمارات أكثر أماناً مثل أسواق النقد والذهب والسندات رغم انخفاض الفوائد على مثل هذه السندات ذات الدخل الثابت في السنوات العشر الماضية والتي أصبحت مؤخراً أقل من معدلات التضخم.
وتعترف السيدة جين بأنها اضطرت للاقتصاد في نفقاتها؛ فهي لم تعد تتناول وجباتها في مطاعم المدينة، وبدلاً من ذلك تقوم بالطبخ بنفسها وتوفير ما يتبقى من الطعام للأيام القادمة، وقد قامت بتحويل اشتراكاتها في الإنترنت والهاتف الجوال إلى شركات أقل كلفة، بل إنها قررت الاقتصاد في كمية الطعام الذي تقدمه لحيواناتها الأليفة رغم حبها الشديد لها؛ لأنها تعيش وحيدة ولم تتزوج بعد. وتعتقد السيدة جين أنها سوف تضطر لمواصلة العمل حتى يصل عمرها إلى السبعين طالما أنها تتمتع بصحة جيدة. ووفقاً لدراسة حديثة أجرتها منظمة خيرية أمريكية تعنى بشؤون كبار السن تسمى AARP في سبتمبر الماضي وقبل تسارع انهيار الأسواق المالية، وجدت تلك الدراسة أن أكثر من ستة أفراد من كل عشرة من الفئة العمرية 45 فما فوق والتي شملتها العينة قد قاموا فعلاً بتأجيل خطط التقاعد وبالعمل ساعات أكثر. ومع وصول معدلات البطالة إلى أرقام قياسية بلغت 6.5% خلال الشهر الماضي مقارنة بمعدل بطالة بلغ 4.8% خلال نفس الفترة من العام الماضي، فإن تأثيرها السلبي قد طال جميع الفئات العمرية بلا استثناء.
ويعتقد بعض علماء النفس والاجتماع أن الأفراد الذين يعيشون تحت هذا النوع من الضغوط المالية (قد) ينتهي بهم المطاف إلى اليأس والإحباط ومن ثم محاولة الانتحار كسبيل وحيد للخلاص من هذا المأزق الذي وُضعوا قسراً فيه.
وفي أحد التعليقات الظريفة لأحد المواطنين الأمريكيين ممن طوقتهم الأزمة المالية الصعبة بمخالبها التي لا ترحم أحداً والتي نشرت في أحد المواقع الشهيرة يقول ذلك المواطن المكتئب إنه قد عقد العزم على الانتحار وكان قاب قوسين أو أدنى من تنفيذه ولكنه تراجع في اللحظة الأخيرة ليس خوفاً من الموت بل لأن عائلته لا تملك المال الكافي لدفع تكاليف تجهيز الجثمان ودفنه!!
لم أكن حقيقة لأنقل هنا مثل تلك الصور القاتمة التي يعانيها من يعيش في كنف الرأسمالية للتشمت بما وصل إليه حال كثير من أبنائها بقدر ما أردت أن أنقل حقيقة اقتصادية مهمة، وهي أن تلك الاقتصادات المتقدمة، عدةً وعتاداً، مقارنةً باقتصاداتنا العربية البسيطة، تتأثر مباشرة بأي طارئ سلبي قد يطرأ على قطار الرأسمالية؛ فهي تدور في حلقة متكاملة من النشاطات الاقتصادية المتكاملة وأي اختلال في أي من تلك النشاطات سوف يؤثر سلباً وآنياً في غيره من النشاطات الأخرى؛ فالتأثير سوف يكون شاملاً وعاماً على جميع المستويات الحكومية والخاصة الجزئية والكلية والخيرية والاجتماعية. وهل اقتصاداتنا العربية تتداخل بنفس الدرجة التي تتداخل بها الاقتصادات الغربية؟ بالطبع لا؛ إذ لا تزال الاقتصادات العربية تعتمد اعتماداً كلياً على القطاع الحكومي في دفع عجلة التنمية الاقتصادية، ولا يحظى القطاع الخاص العربي بدور كبير في عملية التنمية الاقتصادية (رغم أنه شريك أساسي)؛ وبالتالي سيكون تأثيره في النشاط الاقتصادي محدوداً جداً، سواء امتدت إليه التأثيرات السلبية للأزمة المالية العالمية الحالية أم لم تمتد؛ وبالتالي ففي رأيي أن التأثيرات السلبية التي طالت بعض مؤسساتنا المالية والمصرفية العربية، ومنها بالتأكيد الصناديق السيادية حديثة التكوين وقليلة الخبرة، هي نتاج أخطاء إدارية محلية وتوصيات أجنبية مضللة دفع ثمنها المساهمون في تلك المؤسسات ولم يدفع ثمنها مَن قام بجر أموال تلك المؤسسات لمصيرها الأسود من القياديين الذين لا يزالون - مع الأسف - يتربعون على هرم تلك المؤسسات حتى اليوم وكأن شيئاً لم يكن.
وفي الختام أتوجه إلى كل من (يزعق) في الصحافة العربية بأن تأثير تلك الأزمة لم يُطِلّ بوجهه القبيح بعدُ على المواطنين العرب بأن يطمئنوا؛ فاقتصاداتنا العربية هي اقتصادات حكومية بالدرجة الأولى، وعلى العكس تماماً من الاقتصادات الغربية، ولن نرى - بإذن الله - كبار السن من المتقاعدين العرب يعودون إلى طوابير العمل للبحث عن مصدر رزقهم كما هي الحال الصعبة مع السيد إيدي والسيد جاري والسيدة جين التي وردت قصصهم في بداية هذا المقال.
* أستاذ العلوم الاقتصادية والمالية المشارك بجامعة الملك سعود
zalhosan@ksu.edu.sa