التعليم ونشر المعرفة هما أساس البنية التحتية في أي مشروع تنموي في العالم الثالث، والمنهج التعليمي هو الشريان الرئيس الذي يحدد متانة هذه البنية، والخلفية التي يجب أن يشترك فيها أفراد المجتمع من أجل التواصل الثقافي والوطني، لكن عندما نكتشف..
.....أن هناك فروقات واختلافات رئيسة بين مناهج التعليم التي يتم تطبيقها في المدارس الحكومية، وبين تلك التي تتميَّز بها المدارس الأهلية والدولية، وتقدمها لتلاميذها باللغة الإنجليزية، نتساءل عن سبب ذلك؟..
ويزيد على هذا التساؤل عجباً عندما أيضاً ندرك أنه يُسمح للسعوديين بالالتحاق في صفوف المدارس الدولية وبتلقي العلم والمعرفة كاملة باللغة الإنجليزية وبأساليب ومناهج تعليمية متطورة ومختلفة تماماً عن التعليم الحكومي وبقية المدارس الأهلية، وما زلت أجد صعوبة في فهم أسباب السماح بتأسيسها رغم مخالفتها للنظام، الذي يمنع التحاق السعوديين في المدارس الدولية التي تقدم مناهج مختلفة وبلغة أجنبية، وربما كان هذا الاستثناء تلبية لرغبات النخب والطبقات الاجتماعية الأكثر دخلاً وحظوة بالمهن الرفيعة والمناصب العليا، التي عُرف عنها اهتمامها المهووس بتعليم أبنائها تعليماً أكاديمياً يُسهِّل من مهمة إكمال دراسة أبنائهم في الغرب ثم إعدادهم ليكونوا أكثر تميُّزاً من خريجي التعليم المحلي....
سبق وأن سألت أحدهم عن سبب إلحاق أبنائه بإحدى المدارس الأهلية والدولية في الرياض، التي تقدم مناهجها المختلفة باللغة الإنجليزية، وكانت إجابته أن مناهج المدارس الحكومية يجدها غير صالحة للتعليم وللتميُّز، وأنها تتصف بكمية هائلة من الحشو والتكرار الممل، بينما تتميز المدارس الدولية بتطور مستوى مناهجها بسبب عدم التزامها بالمنهج التعليمي السعودي المحلي، وعلى سبيل المثال تُقدم هذه المدارس مادة التاريخ موجزة ومختصرة فقط في تاريخ العالم.. بينما هو العكس تماماً في المدارس الحكومية والأهلية العامة، فمادة التاريخ غير مفيدة وتتصف بالتكرار والإعادة.. كذلك على حسب قوله يتم تدريس مناهج مختصرة جداًَ في الدين وأصوله، وتعتمد أسلوب المناهج العلمية على مساعدة التلاميذ على البحث عن المعلومة خارج المنهج.. ثم أضاف أن المدارس الدولية تختصر كثيراً من إشكاليات وصعوبات الابتعاث والتوظيف التي يواجهها المواطنون عند التقدم للعمل ومنها إتقان اللغة الإنجليزية تحدثاً وكتابة.. وهو شرط يخالف مبادئ الوطنية وفلسفة التعليم الحكومي لكنه أضحى ضرورة وشرطاً ملزماً لدخول سوق العمل..
أعتقد أن البحث عن الخيار الأفضل لتعليم الأبناء حق مشروع لجميع فئات المجتمع، لكن يجب أن لا تكون المناهج متباينة ومتناقضة مع الأهداف الوطنية، لكن التساؤل الذي لم أستطع كبت جماحه!.. لماذا تريد النخب الاجتماعية والطبقات الأكثر ثراءً ووجاهة إبعاد أبنائها عن مناهج التعليم المحلية وعن معرفة تاريخ وطنها، ومن تلقي المعرفة الحديثة باللغة العربية ..! وهل يعتقدون أن هذا التميُّز سيجعل من أبنائهم أكثر قدرة ومهارة من بقية أبناء المجتمع الذي شاء قدرهم أن يستمروا في المدارس الحكومية؟.. هو بالتأكيد اعتقاد خاطئ، وكانت وما زالت عواقبه وخيمة في كثير من تجارب الدول في عالم الشرق العربي..
سيكون سلبياً أن تتسع الهوة بين طبقات المجتمع ليس فقط مالياً ولكن معرفياً وثقافياً، وأن تتخرج أجيال لا تملك القدرة على التواصل مع الناس نظراً لاختلاف خلفيتهم الاجتماعية والمعرفية واللغوية..، والتاريخ علَّمنا مراراً أن الأقلية (المتفرنجة) تخسر دائماً أمام المد الثقافي الشعبي مهما كانت سلبيته ودرجة تخلُّفه، وأن ثقافة الصعايدة أو البدو أو القرويين دائماً ما تجتاح النخبوية مهما ترفعت الأقلية عن ثقافة الشارع ولغتها وقدرها المعرفي، وأنه لا يمكن لأي كان أن يعتقد إذا تكلم وتواصل وتعلَّم أو حلم باللغة الإنجليزية بطلاقة الإنجليز أو الأمريكيين أنه أصبح يملك القدرة والجاذبية والكاريزما الاجتماعية لقيادة المجتمع.. بل العكس هو الصحيح سيجد نفسه هو وأشباهه في حالة عزلة تامة عن الناس وقضاياهم وهمومهم، وقد يخسر مكانته الاجتماعية يوماً ما..
يكمن الحل النموذجي في التطوير الشامل للتعليم في مختلف المراحل، ولكي يتحقق لهذا المشروع النجاح لا بد من إعداد خطة تعليمية متطورة تقدم المعرفة والعلم الحديث باللغة العربية، وأن يتم وضع مشروع وطني جبار لصهر مختلف تقنيات التعليم الحديث في قالب عربي، ثم فرض تطبيقه على مختلف المدارس الحكومية والأهلية والدولية.. ثم الاستعداد ليوم يأتي ويُعتبر فيه شرط إجادة اللغة الإنجليزية للتوظيف مخالفة صريحة لمبادئ الوطن وعنصرية تستحق العقوبة..
سياسة الاستثمار في التعليم الجامعي والابتعاث إلى الخارج لإكمال الدراسة في التخصصات العلمية، التي يحمل لواءها الملك عبدالله -حفظه الله- ستؤتي ثمارها، وسيعود نفعها على الوطن في مستقبل الأيام، وكم نتمنى أن يُفعَّل مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم لكي نتجاوز مرحلة التكرار والحشو الممل التي تتميز بها مناهج التعليم في مراحلها الأولية والمتوسطة والثانوية، ولا أعتقد أن الحل في السماح بتأسيس مدارس دولية أهلية تقبل بالتحاق السعوديين في صفوفها، وأظن غير واهم أن هذا الحل تمَّ إحداثه خاصاً برغبات فئوية محددة، ولن يُساهم في حل المشكلة جذرياً، لكنه ربما كان خياراً إستراتيجياً قد يقلل من ضغط النخبة على وزارة التعليم من أجل فرض سياسة تطوير المناهج في المدارس الحكومية والأهلية..