الرحلات من أوسع أبواب المعرفة والثقافة الإنسانية والتعرف على أحوال الأمم وثقافات الشعوب. وحيث تزدان الكثير من المدن الإسبانية بالآثار الإسلامية، أحرص في كل رحلة إلى إسبانيا على زيارة كل ما يعبر عن تلك المعالم والأمجاد. وبعد زيارة تلك المرابع الأندلسية أذهب إلى مدريد، وهي مدينة حافلة بالمعالم السياحية والمشاهد الأثرية ومكتبة الأسكوريال التي تبعد نحو خمسين كيلاً عن مدريد. وبعد الوصول إلى المنطقة التارخية التي يعتبرها الإسبان إحدى عجائب العالم حيث تضم القصر والمقبرة الملكية والدير والمدرسة الملحقة بها وبها أمكنة مختلفة. وبعد تجوال في المنطقة توجهت نحو مكتبة الأسكوريال الشهيرة التي يوجد بها بقايا التراث الأندلسي الفكري وهي تقع في الجهة اليمنى من القصر وتضم بهواً واسعاً تعرض فيه مجموعة من المخطوطات التي تحتويها المكتبة التي منها صحف كان لأحد سلاطين المغرب. كما قابلت عدداً من الباحثين المغاربة وهم يحققون بعض الكتب وينسخونها، ورأيت باحثين عرب معهم مجموعة من المخطوطات، كما رأيت أحد الإخوة من جامعة الملك عبدالعزيز وقد كان مبتهجاً في العثور على مخطوطة جاء للبحث عنها وبدأ بنسخها ومقابلتها بأصلها.
ومكتبة الأسكوريال ليست غنية من الناحية الكمية، فهي تحوي أكثر من سبعين ألف مجلد، ولكنها غنية بما تحويه من نوادر المخطوطات العربية واللاتينية واليونانية والعبرية وغيرها، إذ تبلغ نحو عشرة آلاف مخطوط، ويبلغ ما تحتويه اليوم من المخطوطات العربية ألفي مجلد على تعبير أمين المكتبة.
وهذه المكتبة التي تجذب اليوم محتوياتها جمهرة الباحثين من سائر أنحاء العالم كانت في بدايتها تتكون من المكتبة الملكية الصغيرة ومما كان يشتريه سفراء الملك فيليب من المخطوطات النادرة من مختلف الأقطار، وضمت إليها منذ البداية بضعة آلاف من المخطوطات العربية التي جمعت من غرناطة بعد سقوطها... ومن سائر المدن الأندلسية، ثم زادت هذه المجموعة العربية زيادة كبيرة في عصر فيليب الثالث حينما استولت السفن الإسبانية في مياه المغرب سنة 1612م على سفينة مغربية كانت تنقل مكتبة سلطان مراكش وقوامها ثلاثة آلاف مجلد في مختلف العلوم والآداب والفنون. وبذلك بلغت المجموعة العربية في الأسكوريال في أوائل القرن الرابع عشر نحو عشرة آلاف مجلد. ثم في عام 1671م شبَّ حريق في القصر قضى على جلِّها من الكتب فلم يبقَ سوى ألفي مجلد هي التي توجد اليوم في المكتبة.
بعد تمضية بضع ساعات في داخل القصر ومشاهدة المتحف واللوحات والمكتبة توجهنا بعد ذلك إلى وادي الشهداء الذي لا يبعد إلا قليلاً من الأسكوريال. ثم غادرنا المنطقة وأخذنا طريقنا نحو العاصمة مدريد بين جبال خضراء، وكنت أقوِّم انطباعاتي عن الأندلس ماضيها وحاضرها في ضوء ما شهدته في الأسكوريال، وتذكرت ما سبق أن قرأته عن حرص الإسبان على إخفاء التراث والآثار الإسلامية عن نظر كل باحث حيث كانوا يخشون أن يتسرب الإسلام إلى تفكير وروح أبنائهم فدفنوا الكتب في هذا القصر الذي صار اليوم مزاراً للسائحين ومرتاداً للباحثين عن التراث العربي الإسلامي.